بين العدمية والأمل وخطاب الحقيقة

20 سبتمبر 2018 - 10:45

يكثر هذه الأيام خطاب الدولة والحكومة في نقد السلبية والعدمية، وفي المقابل، يدعو إلى التبشير وبث الأمل.

تتعرف العدمية في هذا الخطاب بكونها نزوعا نحو تبخيس كل شيء، وعدم الالتفات إلى الجوانب الإيجابية في الاستراتيجيات والسياسات العمومية، فكل ما يصدر عن الدولة أو الحكومة فيه تآمر على الشعب، وتحقيق مصالح فئوية ضيقة.

والحقيقة أن هذا الصنف من العدمية والسلبية موجود في النخب في جميع الدول، وهو جزء لا يتجزأ من المشهد الثقافي والفكري والسياسي والإعلامي، وهو ملح ضروري فيه، شرط أن يبقى في حدوده الضيقة. فحين تتجاوز السلبية والعدمية، نسبتها المعقولة في المجتمع يفقد التوازن تماما، ويصير من الضرورة، دق ناقوس خطر استعادة الثقة وإصلاح العلاقة بين الدولة والمجتمع.

ولذلك، لا تخشى الدول والحكومات الديمقراطية من العدمية إن صدرت عن قوى ونخب سياسية هامشية غير مؤثرة في النسق السياسي، بل على العكس من ذلك، فهذه النخب ضرورية للنموذج الديمقراطي، وتوسعها يمثل مؤشرا لقياس حاجته لتوسيع دائرة المشاركة والإدماج، وليس إبداء الانزعاج وإنتاج التعابير المتوترة إزاء هذا الصنف من التنظيمات والنخب.

لكن المشكلة في أن تختلط في ذهن الدولة أو الحكومة نخب العدمية والسلبية مع نخب الحقيقة، فتخاض الحرب ضد الاثنين، بدافع أن بث الأمل ومواجهة خطاب التيئيس هو واجب وطني، يطلب من كل المثقفين والسياسيين والإعلاميين، أن يكونوا وقودا فيه، وأن قول الحقيقة هو مساهمة في إعطاء سند وسبب للعدمية.

يفترق خطاب الحقيقة كثيرا عن خطاب العدمية، فالمثقف والسياسي والإعلامي الذي يقول الحقيقة، يلعب في الجوهر، دور الضمير والوعي، الذي ينبغي للدولة أو الحكومة أن تستحضره وهي تنغمس في السياسات العمومية.

الدولة، أو الحكومة، التي تحمل في خيالها فسطاطين للمثقفين والسياسيين والإعلاميين، من معي ومن ضدي، تنتهي في الأخير إلى خسران الجميع، الذين تضطر لشرائهم أو ضبطهم، والذين تضطر – بدافع من سوء تقديرها- لحصارهم وملاحقتهم، ففي كل الحالات، لا تستطيع أن تبقى دائما تقدم ثديها للمثقفين والسياسيين والإعلاميين الرضع، وهؤلاء بالمناسبة لا ينفطمون، وإذا أحسوا باستدارة الثدي عن أفواههم يصبحون عدميين، يقلبون الطاولة بخبث على أولياء نعمهم، أما بالنسبة إلى المثقفين والسياسيين والإعلاميين، خدام الحقيقة، فلا يبادلون الحصار والملاحقة بنسق واحد من المواقف، فمنهم من يغادر مواقع الاعتدال إلى العدمية، ومنهم، من يختار النجاة بنفسه وأهله، ومنهم من يغادر الضيق بحثا عن سعة الحرية في أرض الله الواسعة.

الدولة العاقلة، هي التي تدرك وتعي، أن خدام الحقيقة، هم قوتها في المجتمع، وهم الذين ينزعون البهرجة عن السياسات والاستراتيجيات، ويطرحون الأسئلة التي يجب أن تطرح للفت العناية إلى الشروط الذي ينبغي أن تتم بها السياسة المبشرة للمجتمع.

خادم الحقيقة ليس من دوره أن يكون بوقا للدولة والحكومة حينما يبثان الأرقام الكبيرة، ويبشران بالمشاريع الضخمة، وإنما دوره، أن يطرح أسئلة شروط الإنجاز وإمكانه، وسؤال الغاية والجدوى والفعالية، وأحيانا أخرى، سؤال الجدية والمصداقية.

خادم الحقيقة، يهمه نجاح المشاريع ووصول أثرها إلى أصحابها، لكنه، دائم السؤال والتذكير بالسوابق المماثلة، حتى لا تنزاح السياسات من نزعتها الاجتماعية إلى وظائف ديماغوجية دوغمائية.

الدولة العاقلة، والحكومة الديمقراطية التي تشتغل بمصداقية وحس اجتماعي، لا ينبغي أن تتحسس مواقع العدميين والسلبيين، ولا أن تنزعج من خدام الحقيقة وتحاصرهم، وتمنع ظهورهم في الإعلام ومنصات التأثير، بل واجبها، أن تعطي مساحة أكبر للحقيقة، لأنها وحدها، من تستطيع أن تبقي مواقع العدمية والسلبية في النسبة المعقولة، وغير المؤثرة في المجتمع..

 

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

رضوان منذ 5 سنوات

أستاذ بلال : في غياب روح النقد والتربية عليها داخل الحركات المدنية والمؤسسات وعدم التجدد والبحث والمقاربة والمقارنة ...غياب المثقف والتثقيف وطلب النصح ننتظر الأسوأ ... ندفع الآن أخطاء من سقونا وسيعد جيلي الدفع من جديد ومن بعدنا وكل جيل يدفع أكثر ...

التالي