النباهة والاستحمار..

24 يناير 2018 - 12:21

للمفكر الإيراني الراحل « علي شريعتي » كتاب جميل، صاغ عنوانه بعبقرية وذكاء وحكمة، فكثف فيه المعنى بشكل منقطع النظير: « النباهة والاستحمار ». أما النباهة، فيقصد بها « شريعتي » الوعي الفردي والجماعي وممارسة الإنسان حق الشك وعدم التسليم، وأما الاستحمار، فيعني به تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مسار النباهة الإنسانية والاجتماعية.
البلاد تسير في خط يمزج بين هذين النقيضين. شيء من النباهة، وشيء من الاستحمار. قد يتدارك عني بعض القراء الساخطين على الأوضاع بالقول قليل من النباهة وكثير من الاستحمار. أنبه هنا أني أقصد البلاد برمتها، نظاما وشعبا، أقصد « المغاربة »، من يكافح من أجل حقه في التفكير والحرية والإبداع، ومن يستسلم أمام تيار البلاهة الجارف. من يقبل أن يلعب دورا في مسرحية مهينة على حساب كرامته، ومن يرفض العرض المهين ويقاومه. من يبالي ومن لا يبالي. فأقول شيئا من هذا وشيئا من ذاك حتى لا أتجنى على أهل النباهة من مفكرين وكتاب ومثقفين ومسؤولين وعلماء وشابات وشباب مثل الورد بين الأشواك.
صحيح أن الدولة لا ترعى النباهة والنقد وعدم التسليم والاحتكام للمنطق. في السنتين الأخيرتين فقط، أربكت حقلا سياسيا كان يميل شيئا قليلا نحو التعافي من أمراض العبث والانبطاح والتحالفات السمجة والحكومات النووية (كل وزارة تنشطر إلى كتابات وقطاعات وانتدابات بلا ضوابط). وصحيح أنها لازالت ترعى إعلاما يعيث فسادا في عقول الناس، ويقدم لهم كل يوم وجبات تلفزية محشوة بالتسطيح والبلاهة، ووصفات سريعة لتحقيق « النجاح » بعد ربط معنى النجاح في الحياة بمسارات « نجمات » و »نجوم » الخواء والاستعراء وبرامج العته العام. المشاكل تكبر، والاحتجاجات تشتد في الشوارع والساحات، وغراميات « سامحيني »، وبوليود تستعر في الشاشات.
لكن هناك، أيضا، ذلك المغربي الذي يلاحق تلك الغراميات والبرامج ويحشو نفسه طوعا بكم هائل من مقاطع الفيديو الرديئة والصور السطحية، ويحرق ساعاته في تبادل المقولات البليدة والمنشورات الدينية المزيفة والمليئة بالمغالطات في « واتساب » و »فايسبوك » وغيرهما، ولا يكل من الانبهار بأحداث لم تقع أبدا، قليل من النباهة يكفي لمعرفة استحالتها، ويمعن في نشر بدع وضلالات العصر الرقمي وتحويلها إلى قوته اليومي من معرفة مجريات العالم (بقرة تنطق باسم الخالق، مؤسس فايسبوك يسلم بعد سماعه هذه الآية، لن تصدق كيف تصرفت فلانة حين رأت صورة فلان، شاهد فيديو لسقوط فستان النجمة الفلانية، حذار من استعمال هذا المنتج، إذا لم ترسل هذا الدعاء فأنت ضعيف الإيمان..) حتى يتحول المرء إلى مطرح للحماقات والخزعبلات أو حطام إنسان « لا شيء يجري في داخله غير صفير الخواء »، بتعبير الروائي عبد الكريم جويطي في روايته « المغاربة ». وهي رواية تستحق القراءة بالمناسبة.
لا أنادي هنا بأن يتحول الأفراد إلى عباقرة وعلماء وأدباء وخبراء في السياسة والاقتصاد، أدعو فقط، إلى بذل الجهد من أجل الوصول إلى حد أدنى من العلم. فمثلما هناك حد أدنى للأجر يلبي أساسيات العيش ويخفف من متاعب الإنسان المادية، لا بد من حد أدنى من النباهة المعرفية حتى يبحر الفرد في بحر الحياة بسلامة نسبية. الأمر أكبر من تعلم القراءة والكتابة والحساب، أو معرفة كيفية تشغيل حاسوب أو فتح تطبيق، الأمر يتصل بتنمية مهارات الشك والسؤال والفرز لدى الفرد وتقريبه ولو من أبسط قواعد الخطاب العلمي أو الخبر الإعلامي المهني الأقرب للصحة.
البلاد بحاجة إلى ورشات وندوات ولقاءات وحملات تحسيسية وصياغة دلائل لمحاربة هذا الاستعمال المتخلف لتكنولوجيات التواصل. فعوض استثمار قيم التحرر والتعددية والتمكين التي تختزنها هذه التكنولوجيات ننقل إليها – حتى لا أقول نعديها ـ بعوائد هدر الوقت وتناقل الإشاعات والخرافات. على أهل النباهة أن يأخذوا بيد ضحايا الاستحمار.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي