المرافعة 2

14 فبراير 2018 - 18:02

عندما تدخل إلى القاعة 7 المخصصة لمحاكمة الصحافيين في محكمة عين السبع، تصادف لوحة كبيرة مكتوب عليها: «إن اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (الآية) فتقول في نفسك: الحمد لله، مازال العدل عملة رائجة في المحكمة، ولو إلى جانب عملات أخرى.

نستأنف رواية ما جرى في محاكمة «قوالب الوزراء»، ونعرض اليوم مرافعة النيابة العامة التي تبنت شكاية الوزيرين أخنوش وبوسعيد، وألبستها رداء الاتهام، ونسيت الالتزام بالتوقيت الذي يفرضه القانون لتحريك الدعاوى القضائية بشأن المادة الصحافية، وهي ستة أشهر، ذلك أن الملف الذي بين أيدينا تقادم، فمن وقت كتابة المقال إلى يوم توجيه الاستدعاء انقضت ستة أشهر، وسقط الملف بالتقادم، لكن سبحان من يحيي العظام وهي رميم.

استمعوا إلى ممثل الحق العام، وكيف يبرر هذا الخطأ الذي وقعت فيه النيابة العامة: «التقادم انقطع منذ يوم وجه وزيرا الفلاحة والمالية طلبا إلى رئيس الحكومة للسماح لهما بمقاضاة جريدة «أخبار اليوم»، وليس من يوم تبليغ الاستدعاء». الدفاع المحترم رد على هذا التأويل للمسطرة الجنائية بما يليق، لكن كاتب هذه السطور سأل ممثل الحق العام سؤالا واحدا: ‘‘بهذا المعنى، السيد نائب وكيل الملك، فقد خلطت بين السلط في المغرب، وجعلت من الوزراء قضاة أو زملاء لك في السلك القضائي. إذا كانت أعمال الوزير التحضيرية جزءا من تحريك الدعوى العمومية، فماذا تقول في المادة السادسة من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على: «ينقطع أمد تقادم الدعوى العمومية بكل إجراء من إجراءات التحقيق أو المتابعة تقوم به السلطة القضائية أو تأمر به»؟’’. هذا باب بقي مغلقا طيلة أطوار الدعوى، وسنرى كيف فتحه قاضي الحكم عندما يكتب حكمه.

ممثل النيابة العامة أخذ جملة من كلامي وحاول توظيفها ضدي فقال: «إذا كان رئيس الحكومة يفوض عادة الأمر بالصرف إلى وزرائه في جل الصناديق، فما الداعي إلى افتعال كل هذه الأزمة حول الأمر بالصرف في صندوق تنمية العالم القروي، إذا كان رئيس الحكومة سيفوض الأمر بالصرف إلى أخنوش؟». أخذت الكلمة ونبهته إلى سؤال آخر: «ولماذا نغير الآمر بالصرف في هذا الصندوق إذا كان بنكيران سيفوض إلى أخنوش صرف ملياراته؟ ثم إن التركيز على احترام اختصاصات رئيس الحكومة نابع من الحرص على المشروعية، فوزير الفلاحة لا يمكن أن يصرف ميزانية سبع وزارات وحده دون تفويض من رئيس الحكومة، صاحب السلطة الفعلية، ألا ترى أن أول ما يقوم به رئيس الحكومة بعد تعيينه أنه يصدر مراسيم تفويض سلطاته إلى الوزراء كل في اختصاصه، فالوزير ليس له من سلطة في الدستور إلا ما يعطيه رئيس الحكومة من تفويض. إنها ليست لعبة سياسية. إنه مبدأ دستوري وقانوني». قال ممثل النيابة العامة: «كيف يقول المشتكى به إن رئيس الحكومة لم يكن على علم بتغيير الآمر بالصرف في القانون المالي؟ هذا يسيء إلى الحكومة وطريقة عملها وترتيب شغلها». ردي على هذه الملاحظة كان: «نعم، هذا غير معقول، لكن هل كل شيء غير معقول غير قابل للتحقق؟ أشياء كثيرة حولنا غير معقولة وهي موجودة، ثم إنني باعتباري صحافيا لست معنيا بتجميل وجه الحكومة، والسكوت على ما يسيء إليها. نعم بنكيران اعترف بعظمة لسانه بأنه لم يعلم بتغيير الآمر بالصرف إلا من خلال الصحافة، والأمر كله دار بهذا الشكل: لم يجتمع المجلس الوزاري الذي يقرر في التوجهات العامة لقانون المالية سوى يوم الثلاثاء في طنجة، ويوم الأربعاء عاد الوزراء إلى الرباط، وشرع وزير المالية في طباعة مشروع القانون المالي الذي سيعرض يوم الخميس، ويوضع يوم الاثنين في البرلمان كما يوجب الدستور ذلك، حتى إن بعض الوزراء توصلوا بمشروع القانون المالي في منازلهم ليلة الأربعاء، وفي الصباح ذهبوا إلى المجلس الحكومي، ومرت الأمور بسرعة، ولم يكتشف أمر المادة 30 سوى يوم الاثنين 20 أكتوبر».

السيد ممثل النيابة العامة اخترع لي تهمة جديدة لم يقل بها حتى من اعتبر نفسه متضررا من نشر التحقيق والتعليق عليه، فعندما قلت إن الموضوع أصبح قضية رأي عام، أجابني بالقول: «كادت مقالاتك أن تحدث الفتنة في المغرب، وتزرع الفرقة وسط الحكومة، والدليل هو حجم المقالات والسجالات التي أعقبت افتتاحيتك حول الموضوع». أجبته بالقول: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وفي حدود علمي المتواضع، ليست هناك جريمة في قانون الصحافة اسمها «إثارة الفتنة» أو «زرع الفرقة وسط العائلة الحكومية». الصحافي عندما يتناول موضوعه لا يضع أمامه ميثاق الأغلبية الحكومية، ولا الأدب السلطاني، الذي يقول: ‘‘ظلم غشوم أهون من فتنة تدوم’’. الصحافي يضع أمامه الحقيقة وطرق الوصول إليها، وحق الناس في معرفتها، حتى وإن حرصت السلطة على تغطيتها بألف جلباب. هذا هو جوهر العمل الصحافي. الباقي يدخل في العلاقات العامة، وهو كثير أمامنا، للأسف الشديد، في جرائد ومجلات وإذاعات وتلفزات…».

أوقف القاضي المناقشات، وأعطى الكلمة للدفاع الذي كان مكونا من الأستاذ الجليل الطيب الأزرق، والأستاذ المقتدر مولاي الحسن العلاوي، اللذين قدما مرافعة تصلح درسا لطلبة المعهد العالي للقضاء (سننشرها كاملة). بعدها أعطاني القاضي الكلمة الأخيرة، فقلت: «إنني لا أطلب البراءة، كما اعتاد الواقفون في قفص الاتهام فعله، بل أطلب العدالة، ولكم واسع النظر، لكنني فقط أثير انتباه المحكمة إلى أن لهذا الملف بابين ظلا مغلقين؛ الأول هو تقادم الدعوى، والثاني هو صحة واقعة جهل بنكيران بتغيير الآمر بالصرف. الباقي تعليق فيه نقد وليس فيه قذفا، بنص القانون، والمحكمة تطبق القانون».
خرجت من المحكمة وفي ذهني قصة تلك المرأة التي وقفت في المحكمة الفدرالية الأمريكية تقول لكبير القضاة: «احكم يا سيدي بالحق»، فرد عليها بالقول: «المحكمة، يا سيدتي، لا تحكم بالحق، بل تحكم بالقانون».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

lhaj 3bdlhakam منذ 6 سنوات

الوزراء لايجمل بهم شكوى المواطن والصحفي للمحاكم،فهم هنا للإصلاح وخدمة الوطن والذي يجمل بهم الصبر والتحفيز والعمل،تمنينا من السادة الوزراء المشتكون لو لم يفعلوها وتحية للقجع ولد بركان على عدم شكواه وكذلك وزراء آخرون أوذوا من قبل صحفيين لكنهم لم يصلوا للمحاكم لإيمانهم بحرية النقد والتعبير كبن كيران ورباح والعثماني وماء العينين ولشكر وغيرهم.

عبدالعزيز البدوي منذ 6 سنوات

الحق يحتاج إلى رجلين : رجل ينطق به ورجل يفهمه،،، قبس،،

soufian منذ 6 سنوات

السلام عليكم احترماتي السي بوعشرين راك اعزيز الذي صنع له القانون المغربي هو اخضاع رقاب العبيد الضعفاء وليس اخنوش وامثاله الله غالب لاتقوم الساعة الا على شرار الخلق

haloum منذ 6 سنوات

أقترح عليك السيد بوعشرين أن تجمع هذه المرافعات بين دفتي كتاب بعنوان "قوالب الوزراء" تحياتي

بلحسن منذ 6 سنوات

الصحافي يكتب حسب المعلومة في إطار القانون.ان تجاوزه فحجته الحق و له واسع النظر في ما هو أحق.هنا يتجلى نبل المهنة. نبل السياسة هو التخلي عن المسؤولية عند ارتكاب الخطء و لو ان كان لا إرادي. و حججه ان لم يفعل لا تحصى حتى و ان تعارضت مع القانون. بين الأثنين غياب مدهل : المفكر الذي قانونه الوحيد حرية التعبير و نبله تعميم القيم المؤسسة للمجتمع. خطر في بالي ان هذا الفراغ بالذات حاضر في المرافعات.

moi منذ 6 سنوات

قالها بنكيران ....زواج المال والسلطة خطر على الدولة ...الله ينصر الحق

جابر عثرات الكرام منذ 6 سنوات

طيب في حالة الحكم بالبراءة هل سيعود الإشهار ألا ترى المحكمة ان المدعي مارس الضغط على المشتكي به بقطعه للإشهار, و و بتاثيره كرجل سلطة على القضية تحياتي

أحمد منذ 6 سنوات

ظللت شامخا في محاربة الفساد يا سيدي بوعشرين. وتحياتي لك في نضالك عن القانون والحق والشرف.. وما أنت فيه هو تمحيص لكي نعلم هل أنت صادق في نضالك أم غير ذلك! ولا نظن بك إلا خيرا.. فصبر جميل والله المستعان

ع الجوهري منذ 6 سنوات

تلك الآية حجة عليهم يوم الحساب نسأل الله أن يهديهم ويهدينا معهم فالمهداوي اتهم بإدخال دبابة وأخشى أن يتهمونك بقتل طارق بن زياد البربري

مواطن منذ 6 سنوات

شكرا للسيد بوعشرين على سلسلة المرافعات هاته. ﻹنها تختزل ماهية سير البلاد، "ثقافة" حكامه و قضائه.

مواطن منذ 6 سنوات

يقول الأدب السلطاني: ‘‘ظلم غشوم أهون من فتنة تدوم’’. إنتهى الكلام.

التالي