ماذا تبقى من تجربة التناوب؟

28 مارس 2018 - 13:37

مبادرة ذكية أقدمت عليها مؤسسة عبدالرحيم بوعبيد وجمعية المشروع الجديد بإعادة قراءة تجربة التناوب من زوايا متعددة، وذلك بالنظر إلى السياق السياسي الراهن الذي – ربما- يكون في أمس الحاجة إلى الاستفادة من دروس تناوب سياسي جاء في ظرفية سياسية دقيقة مطبوعة بمعطيات اقتصادية واجتماعية صعبة وبمخاطر التهييء لانتقال الملك..
إعادة قراءة هذه التجربة بعد مرور عشرين سنة، هي محاولة لقياس أثرها في واقعنا السياسي، وما أفرزته من تحولات اجتماعية وسياسية اصطدمت بحدود سياسية ومؤسساتية معقدة، واعترضتها إكراهات موضوعية لها صلة مباشرة بالبنية العميقة للسلطة في المغرب وكيفية اشتغال النسق السياسي المغربي..
ما هو مؤكد أن تجربة التناوب كانت لحظة لمصالحة المواطن مع السياسة، مقرونة بحماس شعبي واسع، كان المواطن معها يتابع حكومة الأستاذ عبدالرحمن اليوسفي باعتبارها حكومة لإنقاذ المغرب من أزماته الاقتصادية والاجتماعية ( السكتة القلبية)، ويتطلع إلى ممارسة سياسية مختلفة عن التدبير التقنوقراطي الجامد الذي ساد طيلة أربعة عقود…
النخبة الاتحادية التي أوكلت لها مهمة قيادة التناوب، راهنت على تقديم أداء سياسي مختلف يتجاوز منطق صراع المشاريع السياسية إلى تدبير إصلاحات سياسية متوافق حولها، وهو ما راهنت عليه لكسب تعاطف حاضنة شعبية للمشروع الديمقراطي، الذي كانت تحمله أحزاب الكتلة الديمقراطية آنذاك، وتبشر به الجماهير الشعبية..
لم تفشل هذه المحاولة تماما، والدليل هو تحقيق حزب الاتحاد الاشتراكي آنذاك للرتبة الأولى في انتخابات 2002، غير أن تحالف الكتلة سيصطدم برغبة داخلية لتحقيق « تناوب حزبي » من أجل قيادة التجربة، وهو ما دفع حزب الاستقلال آنذاك بقيادة عباس الفاسي إلى قيادة اصطفاف جديد من خارج تحالف الكتلة، مهد الطريق أمام تعيين وزير أول تقنوقراطي، والخروج عن المنهجية الديمقراطية، وهو ما دفع بعبد الرحمن اليوسفي إلى تقديم استقالته من الحياة السياسية والإعلان عن فشل تجربة الانتقال الديموقراطي من بروكسيل.
لكن، هل كانت تجربة التناوب التوافقي مؤطرة بإرادة الانتقال الديمقراطي، أم كانت بمثابة تناوب سياسي ظرفي معزول عن مفهوم الانتقال الديمقراطي؟ وهل كانت هناك إرادة جماعية للانتقال بالمغرب إلى تبني الديمقراطية الحقة كمنهج في الحكم والتسيير؟
الشهادات الصادرة عن الفاعلين الأساسيين خلال تلك المرحلة، وعلى رأسهم الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، تؤكد أن حكومة التناوب عانت من جيوب مقاومة التغيير من داخل السلطة، ومن داخل تحالف الكتلة أيضا، وهو ما دفع بالأستاذ محمد اليازغي إلى الاعتراف بأن الكتلة « تفككت أثناء حكومة التناوب وغرقت في الأغلبية، وهو ما جعل المراحل المقبلة تكون صعبة »، حسب تعبيره.
عبدالله ساعف الباحث الرصين، الذي عايش تلك المرحلة عن قرب كفاعل سياسي يقرأ هذه المرحلة بواقعية شديدة ويسجل بأن « انفراد التقنوقراط بالسلطة لحقب طويلة مكنهم من تشكيل قاعدة اجتماعية قوية أساسية لا يمكن تجاهلها »، وعاين عن قرب كيف ساهموا في عرقلة عمل حكومة التناوب » من منطلق « الحقد الذي تكنه فئات ودوائر معينة لممثلي الأحزاب ».
سعيد السعدي، الوزير السابق في حكومة اليوسفي عن حزب التقدم والاشتراكية، سلط الضوء على عائق بنيوي أثناء تقييم هذه التجربة، وهو المتمثل في  » ثقافة الريع والمخاطر التي يؤدي إليها زواج المال السلطة، معتبرا أن هذه الزواج « يشكل حاجزا كبيرا أمام تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد ». وشدد على أن المغرب من دون « كسر الزواج بين السلطة والمال لن يذهب بعيدا »، لافتا إلى أن « هناك دراسات تبين التكلفة الاقتصادية لهذا النوع من الريع الذي تستفيد منه بعض الشخصيات لقربها من السلطة أو هي السلطة نفسها »…
داخل البيت الاتحادي هناك تباين كبير في تقييم هذه التجربة، بين من يعتبر بأن « الاتحاد الاشتراكي لم يشارك في تجربة التناوب بقدر ما شارك فيها اتحاديون »، وبين من يرى بأن هذه التجربة « أدخلت المغرب لمرحلة الانتقال الديمقراطي الذي مازلنا نعيشه اليوم »..
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم، ماذا تغير بعد الدينامية السياسية القوية التي أطلقها شباب 20 فبراير، وبعد إقرار دستور جديد متقدم نسبيا على دستور 1996 الذي أطر مرحلة التناوب؟
رغم الآمال التي فتحت مع التحولات الجديدة، خصوصا مع صعود حزب العدالة والتنمية خلال انتخابات 2011 وتشكيل حكومة جديدة بقيادة الأستاذ عبدالإله بنكيران، فإن المشهد السياسي المغربي لازال محتفظا بمجموعة من الثوابت، تتمثل أساسا في مشهد حزبي مفرط في التعددية وقوانين انتخابية معرقلة لإفراز قوى سياسية كبرى، وتشكيل حكومة غير متجانسة، مما يجعلها غير قادرة على قيادة الإصلاح..
أو بمعنى آخر، إن الحدود التي ساهمت في عرقلة تجربة التناوب، لازالت حاضرة في جميع التجارب الحكومية اللاحقة.. فرغم تعديل الدستور، لازالت مجموعة من الإصلاحات الطموحة تقف أمامها العراقيل نفسها، التي كانت موجودة بالأمس، ولم تنجح البلاد في إقرار إصلاحات اقتصادية واجتماعية قوية، تساهم في تقليص الفوارق الاجتماعية والحد من الفقر والبطالة والحرمان الاجتماعي، بل وصلنا اليوم، إلى الإعلان الرسمي على محدودية النموذج التنموي للبلاد والدعوة إلى التفكير في نموذج اقتصادي بديل..!
الخلاصة الأساسية في نظري، أن تجربة التناوب، لم تكن مندرجة في إطار مفهوم الانتقال الديمقراطي، كما تبلور في سياقات سياسية مختلفة سواء في أوروبا الشرقية أو في أمريكا اللاتينية أو في بعض الدول الإفريقية كذلك، وأن ما عشناه من تحولات سواء مع دستور 1996 أو دستور 2011، لا يتعلق بانتقال دستوري بقدر ما يتعلق بتطور في النص المكتوب، انعكس بشكل محدود على الممارسة، التي ظلت مترددة ومتأرجحة بين دستور جديد وثقافة سياسية قديمة، لم تتخلص بعد من ترسبات العديد من التقاليد والممارسات المحافظة التي تتغذى على المفارقات اليومية المعيشة بين تقدمية النص وتخلف الممارسة وعجز النخب السياسية، وهو ما كان بالإمكان أن نتجاوزه بالتوافق الجماعي حول متلازمة « الإصلاح في ظل الاستقرار »، غير أن هذا الشعار نفسه أبان عن محدوديته، أيضا، بعد تعثر تشكيل أغلبية حكومية لمدة ستة أشهر بعد الانتخابات التشريعية ليوم السابع من أكتوبر، انتهت بإعفاء الأستاذ عبدالإله بنكيران، هذا الإعفاء الذي كان مسبوقا بتأويلات متعددة كشفت عن محدودية النص الدستوري أمام سلطة التأويل المفتوحة على عدة قراءات مما أعاد طرح السؤال لدى البعض: ألا يكمن المشكل في النص نفسه؟ ربما يكتسب هذا السؤال مشروعيته من حجم المفارقة أو حتى من حجم الإحباط الذي يشعر به من عبروا عن قناعات متفائلة أكثر من اللازم على المفعول السحري لدستور 2011 وأثره على الممارسة، لكن مع التسليم بجدية هذه الفرضية، فإن النص الدستوري ما هو سوى تعبير عن تفاعل العديد من الإرادات السياسية للفاعلين، وهو السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: إلى أي مدى تتوفر إرادة الإصلاح الديمقراطي لدى الجميع؟

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي