المدلسون الجدد

29 مارس 2018 - 16:25

« قد نسكت عن حق، ولكن لا نقول باطلا »، وبعض الباطل يتلبس في تحليلات بئيسة تتخذ لها منهج « إسقاط الطائرات »، من قبيل استدعاء بروز زعامات قومية (أردوغان، بوتين..) أو عودة الصين لحكم الفرد، لبناء استدلال متهافت المبنى والمعنى يفضي إلى أطروحة: الدولة أولا، الدولة أخيرا..
الغريب أن أنصار « هيبة الدولة » هم أنفسهم من قوضوا هيبة الدولة المفترى عليها، حين كانوا يروجون لنظرية: دولة أقل.. في ظل تصاعد المد النيوليبيرالي، الذي كان يدعو إلى إخضاع الخدمات الاجتماعية الأساسية لمنطق السوق والتنافسية، والتخلي التدريجي للدولة عن واجباتها التي تشكل أساس وجودها وعلة خضوع الأفراد لها.
لا يعرف العالم فقط، تصاعد النزعات السلطوية من داخل الأنظمة القوية إقليميا أو الساعية للهيمنة.. والتي حاول مقال تحليلي لصحيفة يومية تعبر عن هوى جهاز ما قسرا نعتها بالأنظمة الرئاسية في مقابل البرلمانية.. في حين أن التفاضل بين الرئاسي والبرلماني، هو قائم على الفعالية دون الإخلال بشرط الديمقراطية التي لا تلغي السيادة الشعبية عبر انتخاب الحاكمين. وبالتالي، فلا تعارض بين الأنظمة الرئاسية والديمقراطية، فنقيض الديمقراطية هو السلطوية تلبست بلبوس رئاسي أو برلماني.
فإلى جانب بروز الزعامات ذات المنزع القومي (المحافظ عموما) يشهد العالم تصاعد المد الشعبوي في صيغتيه اليسارية الراديكالية أو الهوياتية (العرقية، الدينية،القومية..)، لكن هذا ليس مسوغا لنبذ الديمقراطية جانبا، بقدر ما هو جرس إنذار يحتم على أنصار الحرية والتقدم والعدالة والمساواة فتح ورش تحصين الديمقراطيات سواء الكلاسيكية أو الناشئة من خطر النفاذ من ثغراتها، باعتبارها إبداعا بشريا غير مكتمل ويغتني من أزماته.. تحصين هذه الديمقراطيات من فيروسات الكراهية والإقصاء والشموليات وإرادة الهيمنة.
ومن البؤس أن نخترع في كل سياق إقليمي أو عالمي جديد مبررات من أجل تأجيل ورش التحول الديمقراطي (لا الانتقال الديمقراطي الذي أضحى مفهوما مبتذلا).. فالمدلسون الجدد يتحدثون اليوم عن أن الديمقراطية قد تمس بهيبة الدولة، وقد تفضي لمثل ما وقع باليمن وسوريا، خصوصا في ظل مؤامرات تنسجها قوى ودول ما ضد وحدة البلاد واستقرارها، وكأن ما يحدث في بلدان الحروب المذهبية والإقليمية له علاقة سببية بالديمقراطية التي لم تكن أبدا هناك، فهل ما يحدث هناك ناتج عن الديمقراطية أم عن غيابها؟؟
المدلسون الجدد في هذا البلد، هم ورثة المدلسين القدامى الذين وظفوا الإجماع الوطني حول استكمال الوحدة الترابية لتمطيط الانتقال الديمقراطي لأجل غير مسمى، ثم أخرجوا فزاعة الإرهاب والأصولية مبررا لتأجيل الديمقراطية، وبعدها بدؤوا التنظير لأطروحة: التنمية أولا، التي بمقتضاها وضدا على منطق التاريخ قالوا بإمكانية النجاح الاقتصادي دون حاجة إلى الديمقراطية، بل كانوا يروجون أن الديمقراطية قد تكون عائقا أمام التنمية الاقتصادية.. وفي مسلسل التأجيلات بمبرر هذه الدعاوى لم نحسم معركة استكمال الوحدة الترابية، ولم نربح في المواجهة ضد التطرف (أصبحنا من مصدري العناصر الإرهابية لمناطق التوتر)، وأعلنت أعلى سلطة بالبلد فشل النموذج التنموي الذي بسببه تم تأجيل ورش دمقرطة الدولة..
المدلسون الجدد ينظرون إلى السلطوية الناعمة والاستبداد « لايت »، بمبرر هيبة الدولة والمؤامرات الخارجية وخطر التفتيت.. وهي « فذلكات » تُعيد الفقه السلطاني في القرن الواحد والعشرين الذي تلخصه مقولة: « سلطان غشوم أفضل من فتنة تدوم »..
المدلسون الجدد الذين كانوا يروجون بالأمس القريب أن الاستثناء المغربي مرده هو تقدمه في مؤشري الديمقراطية وحقوق الإنسان قياسا لمحيطه الإقليمي، هم من يدعون اليوم، ضمنا لاستلهام نموذج السيسي ومحمد بن سلطان.. أما أردوغان وبوتين وجين زهاوبينغ فدوننا ونماذجهم، بكل سلبياتها، مسافات ضوئية…

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي