ذو اللحية المشعثة

08 مايو 2018 - 15:28

قبل مائتي عام (5 ماي 1818) ولد كارل ماركس، الرجل ذو اللحية المشعثة، الذي رتّب العالم في طبقات متصارعة، وحرّض العمال على الثورة من أجل إسقاط ديكتاتورية « الرأسمال »، وإقامة ديكتاتورية أخرى على أنقاضها، اسمها « ديكتاتورية البروليتاريا »، وهي طبقة العمال والفلاحين والعاطلين، وغيرهم من المسحوقين تحت حذاء « البورجوازية المتعفنة »، كي نستعمل القاموس الشيوعي الأنيق.

من روسيا إلى فيتنام، ومن الصين إلى كوبا، مرورا ببوليفيا والكمبودج والسودان والكونغو والمجر… الرجل ملأ الدنيا وشغل الناس، وغيّر ملامح العالم في القرن العشرين. أفكاره  حررت بعض الشعوب، ووضعت أخرى في سجن كبير، وأودت بأرواح الملايين في حروب شرسة على السلطة والنفوذ، وألهمت كبرى الجرائم في العصر الحديث. ألم يكن ستالين ماركسيا؟ ألم يُبِـدْ پول بوت ملايين « الخمير الحمر » تحت راية عليها منجل ومطرقة؟ البعض مقتنع أن مؤلف « كتابات عسكرية » بريء من هذه الجرائم. فهل فعلا ماركس غير معني بما ارتكب باسمه من فظاعات؟ ربما، لكن الأنظمة الحمراء كانت تحارب وتعتقل وتعذب باسم « البيان الشيوعي »، مثلما تقتل التنظيمات الإرهابية اليوم باسم « القرآن »، والفرق بين  كتاب المسلمين وكتاب الشيوعيين هو الفرق بين السماء والأرض!

مهما يكن، فإن فيلسوف الثورة كان رجلا عظيما، أمضى حياته يفتش عن قوانين الصراع الطبقي، وكيفية تحويل الجوع إلى طاقة تقود العمال إلى السلطة، على جثث من يستغلونهم ويتحكمون في « وسائل الإنتاج » . في 1917، جاء لينين على عجل، أسقط القيصر، بعد ما التهم كل مؤلفات ماركس، وأسس الاتحاد السوفياتي، لكنه توفي على عجل أيضا، قبل أن يكتمل الحلم الشيوعي، وسلم البلد للرفيق ستالين، الذي قتل تروتسكي وكل منافسيه، وحوّل الماركسية إلى كلمة تقطر بالدم!

في المغرب، بدأت الماركسية مع « الحزب الشيوعي »، الذي تأسس في الأربعينيات، وكان يضم مغاربة وفرنسيين، قبل أن يستلمه الرفيق الحاج علي يعتة، الذي أدخل الماركسية إلى الإسلام وأدخل الإسلام إلى الماركسية. في السبعينيات، سيطر ماركس على الجامعة المغربية، مع ميلاد منظمات أقصى اليسار، مثل  « 23 مارس » و »إلى الأمام » و »لنخدم الشعب »، وغيرها من التنظيمات الراديكالية التي تعرضت لقمع شرس من طرف السلطة، وانتهى  قادتها بين السجون والمنافي. الماركسيون حركوا التاريخ السياسي المغربي. وضعوه أحيانا على الحافة، لكنهم أسهموا في التقدم نحو « الانتقال الديمقراطي »، الذي دشنه الحسن الثاني نهاية القرن الماضي، رغم أنهم عارضوه، ورغم أنه لم يكتمل، وتلك قصة أخرى. كما أسهموا في رد الاعتبار إلى ضحايا « سنوات الجمر »، حيث كانوا في قلب مسلسل « المصالحة »، الذي قاده اليساري العنيد إدريس بنزكزي. اليوم، هناك حزب ماركسي اسمه « النهج الديمقراطي »، يعيش على الهامش، ولا تمنحه الدولة أي فرصة للتعبير عن مواقفه. في البلدان التي تحترم التعدد، تجد هذه الأصوات مساحة للتعبير عن رأيها، مهما كان متطرفا،  حفاظا على صحة الديمقراطية وعافيتها. في فرنسا مثلا، كل تنظيمات أقصى اليسار تعبر عن أفكارها بحرية في الإعلام العمومي، رغم أن بعضها مازال يؤمن بالعنف الثوري!

العصر الذهبي للماركسية بات وراءنا، بعد انهيار ما كان يُعرف بـ »المعسكر الشرقي »، التجسيد السياسي والجغرافي الأكثر نجاحا لـ « المادية الجدلية ». الدولة الشيوعية سقطت قبل أن تتحقق، لكن الفكرة مازالت صامدة في كتب الرجل الذي أبدع النظرية الاقتصادية الأكثر راديكالية في تاريخ البشرية. ماركس مازال حيا في الصين أيضا، التي ذكّرنا رئيسها أنها دولة شيوعية هذا الأسبوع، وأهدى لمدينة « تراف »، مسقط رأس مؤلف « الإيديولوجية الألمانية »، تمثالا برونزيا بمناسبة مرور قرنين على ولادته.

في البيوغرافيا المشوقة، التي خصصها جاك أتالي لأشهر فيلسوف في العصر الحديث، تحت عنوان: « كارل ماركس أو روح العالم » (Karl Marx ou l’esprit du monde, Fayard, 2005). يقول مستشار فرانسوا ميتران: « عندما تقرأ أعمال ماركس بتمعن، تكتشف أنه انتبه قبل الجميع إلى أن رأس المال يحرر من كل استيلاب سابق، كما نكتشف أنه لم يعتبر يوما أن الرأسمالية تحتضر، ولا أن الاشتراكية على مرمى حجر في أي من البلدان. على العكس من ذلك، بشر بالتبادل الحر وبالعولمة، وتنبأ أن الثورة لن تأتي، إذا ما أتت، إلا بعد ما تصبح الرأسمالية كونية، كي تتجاوزها »…  لم تفشل الشيوعية إذن، بل تطبيقها المتسرع هو الذي أخفق. أفكار ماركس مازالت متقدة وتلهم الملايين، في انتظار أن تنضج العولمة ويستفحل الرأسمال، كي تنتصر. وإذا كانت سمعته الثورية تسبقه، فإن ماركس كاتب وزميل صحافي قبل كل شيء، أمضى حياته في التأليف وتدبيج المقالات، وترك خزانة ضخمة في الفلسفة والفكر والاقتصاد والسياسة… صحيح أنه كان يكتب كي يؤثر على الأحداث ويوجه التاريخ ويغير الواقع، لكن المسافة بين النص والتطبيق مثل المسافة بين الحلم والواقع، بين الفكرة والدولة، محفوفة بالمخاطر، وبالجثث أحيانا.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي