ثمة نقاش حيوي حول تقييم الوضع الديمقراطي بالمغرب، وموقع الحركات الديمقراطية وأدوارها في هذه المرحلة الدقيقة.
النقاش الذي تعودته القوى الديمقراطية بين يدي هذا التقييم أن تقرأ السياق الدولي والتحولات الإقليمية والعربية، وتدرس أثر ذلك على المسار الديمقراطي، وهل تتحمل البيئة السياسية مراكمة هذا المسار، أم ترضى القوى الديمقراطية بالتراجع التكتيكي إذا عجزت عن تمنيع البلد من مسايرة النكوص؟ المفترض أن يكون المنطلق هو استحضار هذه المعطيات في بناء التقدير، لا توظيفها لبناء أطروحة تبرير التراجع.
الخطورة، أن تنشأ هذه الأطروحة أولا، ويتجاوز المؤسسون لها الاستعانة بالسياق الدولي إلى التعسف في قراءة التجارب، وتطويعها لخلق الشرط النفسي والفكري والسياسي للقول بمحدودية دور الأداة الإصلاحية في تصحيح المسار الديمقراطي.
فلا يفهم بالمطلق، كيف تصبح تجربة الإخوان في مصر، التي طالما نظر إليها مغربيا، على أنها تجربة مغالبة، أساءت فهم تناقضات الوضع الدولي، وأساءت تقدير الأبعاد الاستراتيجية في المنطقة، فضلا عن التعنت في التقدير السياسي، درسا للحالة المغربية يذكرها بأولوية تأمين المشروع على حساب التعاقدات الديمقراطية مع المجتمع.
ولا يفهم كيف تستدعى تجربة الجزائر، التي كان إسلاميو المغرب السباقين إلى نقد نهجها وخياراتها الفكرية والسياسية، ويصبح مصيرها حجة للتحذير من مغبة قلب الأولويات وجعل الديمقراطية أولا، قبل تأمين المشروع.
أما العبث، فاستدعاء التجربة الكويتية، التي اختارت بعد ربيع الشعوب مقاطعة العملية السياسية، وانتهت بعد تقييمها لهذا الموقف للعودة لخيار المشاركة، فيتم استدعاء تداعيات موقفها السابق، كما ولو كان الجدل في الحالة المغربية بين المشاركة والمقاطعة، وليس بين المشاركة بمنطق مراكمة المسار الديمقراطي، والمشاركة بمنطق الحفاظ على المكتسبات. والأكثر عبثا وخطورة، الاستشهاد بالتجربة التونسية، وتوظيف النقد الذاتي الذي أجراه الغنوشي لخلق الحالة النفسية والفكرية للتطبيع مع التراجع الديمقراطي بالمغرب.
تقييم الغنوشي: “أن الإخوان كانوا مسكونين بفكرة تحقيق الأغلبية في الانتخابات، لكنهم نسوا أن الوزن الحقيقي هو للنخب الصلبة بمراكز النفوذ (الأمن، الجيش، الإدارة، الإعلام، المال…)، ولذلك لن يتمكنوا من حكم المجتمع ما لم يأخذوا وقتهم لأن وضعهم اليوم فقير من هذه النخب!
الخطير في استدعاء هذا التقييم، هو خلفيته الفكرية والسياسية، والمخلفات القطبية الثاوية فيه، والتي قطعت المراجعات المغربية مع جذورها، وأسست نظرية للعمل تقطع مع هذا الفهم وهذه التراتبية الإخوانية والقطبية في الاستهداف، والتي تبدأ بالمجتمع، ثم النخب الماسكة بمراكز النفوذ، للوصول إلى هدف التمكين!
لم ينتبه المؤسسون لأطروحة التبرير بتوظيفهم لتقييم الغنوشي لهذه الخلفيات الخطيرة في النسق القطبي، فقد تمت مجاراة الخلاصات ببراغماتية، دون استيعاب لمخاطرة المفردات المستعملة في تحليل الغنوشي، والتي لها تبعات فكرية وسياسية غير متحملة، أقلها تقديم هدية ثمينة لخصوم الإسلاميين الذين طالما طعنوا في نواياهم من الحكم.
ومن المفارقات حقا، أن إسلاميي المغرب، سبق لهم أن نبهوا الغنوشي غداة الربيع العربي، إلى خطورة أطروحة استثمار “اللحظة الحامسة” للسيطرة على مراكز النفوذ، وتم نصحه بالابتعاد عن الاشتباك مع بنية الدولة، لكنه لم يستيقظ من الحلم إلا مع الخريف الديمقراطي، بعد ما فجرت حكومة الجبالي، ثم حكومة العريض تباعا بتوظيف الورقة السلفية، وورقة اغتيال زعيمين سياسيين، ولم يفهم الحكمة المغربية إلا في باريس، بعدما أجبر على إبرام اتفاق قاس مع قائد السبسي، يقبل فيه أن تقطع يده من الرسغ بدل الكتف.
فأي درس بهذا الخصوص يمكن أن يستفاد من النهضة التي خاضت تجربة الخطأ من أول يوم، وأي مقارنة يمكن أن تجري بين حركة كانت نخبها في السجن لمدة ثلاثين سنة، ليجدوا أنفسهم جميعا، في سلك الإدارة والوظيفة في إطار المصالحة! وبين تجربة راكمت أزيد من عشرين سنة في العمل الحكومي معارضة وموالاة، وقرابة ثماني سنوات في العمل الحكومي من موقع رئاسة الحكومة، وتكونت لديها نخب سياسية وبرلمانية وحكومية ورجالات دولة، فضلا عن نخب أخرى تنفست في أجواء الحرية وراكمت تجربتها في التعليم والهندسة والإدارة والأعمال وباقي المهن الحرة… من حق النزعة المحافظة في السياسة أن تبرر أطروحتها، لكن الخوف من أن يصبح هذا التمرين عشوائيا فاقدا للحس النقدي، ومتجاوزا لمفردات الحالة المغربية ناسفا لمخرجات مراجعاتها.