حفيد السلاجقة مهّد الطريق لأردوغان

18 يوليو 2018 - 00:00

مع اقتراب مرور قرن كامل على الاحتضان الغربي لتحركات «الوطنيين» العرب الساعين للتخلّص من السيطرة العثمانية (التركية)، واحتضان باريس لأحد أشهر مؤتمراتهم عام 1913؛ تحوّل الانجذاب العربي التركي الذي أفرزته ثورات الربيع العربي، إلى مصدر لهواجس جديدة للعالم الغربي، جعلته يسحب رداء الرضا الذي ظلّ يلفّ به الدولة العلمانية في تركيا منذ تأسيسها من طرف أتاتورك. والسبب الرئيس، تجاوز تركيا أردوغان لحدود الدائرة المرسومة لها منذ قرن، وشروعها في تصدير نموذجها القائم على ثنائية القومية والانتماء الإسلامي، إلى شعوب المنطقة العربية التي خرجت عام 2011 بحثا عن الخلاص من قيود ما بعد «سايكس بيكو» ومعها أنظمة الاستبداد والقمع. تركيا أردوغان القوي واسطنبول البهية والجيش المسلّح ذاتيا (تقريبا) والدبلوماسية المتمردة على الوصاية الغربية والطامحة إلى دور إقليمي يستند إلى الشرعيتين التاريخية والدينية؛ لم تعد هي تركيا ما قبل الربيع العربي، أي تلك الدولة التي تعانق الغرب مجرّدة من ردائها الثقافي (الديني). والرجل الذي يحكم تركيا منذ أزيد من 15 عاما، بدوره لم يعد ذلك الشاب المتمرّد على شيخه (أربكان)، والساعي إلى الجمع بين العلمانية والتنمية والإشعاع الدولي.  رجب طيّب أردوغان، شق لنفسه طريقا نقلته من مجرّد رئيس حكومة يمشي في ظلّ الدولة العميقة (الجيش والقضاء)، إلى سلطان جديد يحرّر الشعور الديني من جديد داخل نفوس الأتراك، ويغيّر الدساتير ليصبح رئيسا للجمهورية على النمط الأمريكي، دون أن يخلو سجلّه من آلاف الاعتقالات في صفوف الخصوم السياسيين والصحافيين والمعارضين، بدعوى التواطؤ مع الأعداء والانقلابيين. «أخبار اليوم» التي كانت قد خصصت في صيف العام 2011 حلقات مطوّلة لرسم صورة كاملة عن مسار تركيا منذ عهد أتاتورك إلى مرحلة هذا الرجل المعجزة؛ تعود بعد سبع سنوات لتنحت هذا البورتريه، مع ما حملته هذه السنوات من منعرجات وتحولات. تركيا القوية اقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا باتت اليوم درسا إلزاميا لجميع شعوب المنطقة العربية، لا مناص من قراءته، دون إغفال أن صانع هذه التجربة الاستثنائية، أردوغان، إنسان راكم الخطايا كما «الحسنات».

 

نجم الدين أربكان، هذا الرجل الملقبّ بـ »المعلم »، هو الذي أخرج الإسلاميين الأتراك من دوامة « التقية » السياسية والحظر العسكري إلى العمل السياسي العلني والقانوني. هذا الرجل الذي قاد عودة الإسلاميين إلى واجهة المشهد السياسي التركي في بداية السبعينيات (كما رأينا في الحلقة الماضية)، هو من حفدة « السلاجقة »، أمراء دولة تركية إسلامية عريقة، سابقة على الدولة العثمانية. فقد كان أحد أجداده آخر وزير مالية لـ »السلاجقة »، وكانت أسرته تلقب بـ »ناظر زاده »، أي ابن الوزير، قبل أن ترغمهم قوانين الألقاب الأتاتوركية على تغيير الاسم.

وُلد نجم الدين أربكان في 29 نونبر سنة 1926 بمدينة « سينوب » أقصى شمال تركيا على ساحل البحر الأسود. ونشأ في أسرة اشتهرت بالتديّن والدعوة إليه. وكان والده محمد صبري بك قاضيا شرعيا ومدنيا في المدينة، باعتباره خريجا للشريعة الإسلامية والقانون. فيما تابع نجم الدين دراسته الابتدائية بمدينة « طربزون »، القريبة من « سينوب ». وبعدما أنهى دراسته الثانوية عام 1943، التحق بكلية الهندسة باسطنبول، وتخرّج منها عام 1948 متفوّقا ومحتلا للرتبة الأولى.

فتم تعيينه فورا معيدا في الكلية نفسها، إلى أن وضع اسمه عام 1951 ضمن بعثة علمية أوفدتها الجامعة إلى ألمانيا لتحضير الدكتوراه، وهو ما أنجزه أربكان لتفوق دائما، ونال الدكتوراه عام 1953 من جامعة « آخن »، متخصصا في هندسة المحركات. فعاد إلى جامعة إسطنبول كمساعد بروفيسور. وعندما كان في ألمانيا، ترك بصمات خالدة، حيث كان رئيسا لمهندسي الأبحاث بإحدى الشركات الكبرى، ووقّع على عدة ابتكارات وتجديدات في مجال محركات الدبابات، التي تعمل بجميع أنواع الوقود، وبقيت تلك الابتكارات مسجلة باسمه.

وبعد عودته إلى تركيا، واصل أربكان أبحاثه في مجال المحركات، موظفا خبرته التي راكمها في ألمانيا. وموازاة مع حصوله على رتبة « بروفيسور » بالجامعة، حقّق أربكان إنجازا علميا وصناعيا، بإشرافه على صناعة أول محرك في تركيا، فقاده ذلك إلى تأسيس شركة مصانع « المحرك الفضي »، رفقة نحو 300 من زملائه، وبدأت الشركة إنتاجها في العام 1960، وهي الشركة التي تحتفظ بمكانتها داخل تركيا، وتنتج زهاء 30 ألف محرك سنويا.

ومن خلال توليه منصب رئيس مجلس إدارة الشركة، أصبح أربكان أمينا عاما لاتحاد غرف التجارة والصناعة والبورصة في تركيا، سنة 1967. ثم رئيسا للاتحاد عام 1968، وكان ذلك كافيا لإثارة معاقل العلمانية في تركيا، حيث أصبحت صحفهم وتنظيماتهم توجه إليه النقد اللاذع. ومثال ذلك ما كتبته مجلة « آنت » في عددها الصادر في 3 يونيو 1969، حيث قالت: « هناك صراع واضح في هذه الأيام في عالم التجارة والصناعة بين فئتين: فئة الرفاق الماسونيين الذين يعملون بحماية رئيس الوزراء سليمان ديميريل، وفئة الإخوان المسلمين الذين يعملون برئاسة نجم الدين أربكان « .

فكانت هذه المعارك الإعلامية والفكرية، بوابة أربكان للانتقال من صناعة المحركات، إلى صناعة قطار الحركة الإسلامية في تركيا، وقيادته نحو اقتحام معاقل الحكم والسلطة. فكان أن توجّه أربكان نحو مدينة جلال الدين الرومي، مدينة « قونيه »، وترشّح فيها للانتخابات البرلمانية عام 1969، وانتزع مقعدا برلمانيا كمرشح مستقل بعد منعه من الترشح باسم حزب « العدالة » برئاسة « دييميريل » الحاكم حينها، وتمكن أربكان من الفوز بفضل ما عُرف عن المدينة من تديّنها وميلها إلى المحافظة على الإرث الديني. المعركة السياسية الأولى لأربكان، وخروجه منها منتصرا، جعله يبادر إلى الشروع في صناعة مشروعه السياسي الخاص به، بتأسيسه حزب « النظام الوطني » عام 1970، إلى جانب شخصيات معروفة بفكرها السياسي المناهض للعلمانية.

و »منذ دخوله حلبة السياسة عام 1969م، جاهد في سبيل أن تشقّ الحركة الإسلامية طريقها وسط أنواء العلمانية العنيفة.. ولاقى في سبيل ذلك العنت والظلم »، يقول الباحث شعبان عبد الرحمان. وفي المؤتمر الأول للحزب بمناسبة مرور عام على تأسيسه (يناير 1971م)، ألقى أربكان كلمة أكد فيها البعد الإسلامي للحزب قائلا: « إن أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام، ولقد حاول الماسونيون والشيوعيون بأعمالهم المتواصلة أن يُخرِّبوا هذه الأمة ويفسدوها، ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، فالتوجيه والإعلام بأيديهم، والتجارة بأيديهم، والاقتصاد تحت سيطرتهم، وأمام هذا الطوفان، فليس أمامنا إلا العمل معاً يداً واحدة، وقلباً واحداً، حتى نستطيع أن نعيد تركيا إلى سيرتها الأولى، ونصل تاريخنا المجيد بحاضرنا الذي نريده مشرقاً ».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

البياز منذ 5 سنوات

هذا ما لم ينتبه اليه الاسلاميون في العالم العربي ابتعادهم عن عالم المال والتحارة و صناعة الاعلام وتركيزهم على السياسة فقط.

التالي