الملك الناقد

29 يوليو 2018 - 13:42

19 سنة من حكم الملك محمد السادس، رافقه فيها ثلاثة وزراء أولون ورئيسا حكومة، وفتحت خلالها أوراش كبرى وملفات حساسة، دون أن تغلق أو يغلق حولها النقاش. وطيلة هذه المدة كان الملك هو الفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأول، وأيضا المنتقد الأول لعدد من المشاريع والمجالات والمتدخلين فيها؛ فصارت النبرة النقدية هويةَ الخطب الملكية الأخيرة وخاصيتها، وأصبح السياسيون والموظفون الكبار يتحسسون رؤوسهم قبيل كل خطاب ملكي، مرددين: على من سيأتي الدور هذه المرة؟ انتقد الملك النخب والإدارة، واعتبر أن العديد من الموظفين العموميين لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة والطموح اللازم، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية. انتقد النظام التعليمي والنموذج التنموي وأعلن فشلهما.

انتقد الأحزاب والمنتخبين، ووصف النقاش السياسي بالجدال العقيم. انتقد السياسة الاجتماعية للدولة، واعترف بحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة، وبأن الواقع يؤكد أن الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين… حتى الأمن الذي أبان عن علو كعب في ضبط الاستقرار ومواجهة الإرهاب استباقيا، واستحق بذلك اعترافا دوليا، لم يسلم من سهام نقد الملك الذي أقر بوجود تجاوزات خلال الاعتقالات التي أعقبت أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية. الشيء نفسه بالنسبة إلى القضاء، حيث حذر الملك من خطورة «التدخل في القضايا المعروضة على القضاء»، وهو اعتراف ضمني باستمرار قضاء التعليمات.

إن هذا الخطاب النقدي المؤسس على فكرة أن المغرب ناجح في الحكم وفاشل في الحكامة، لا تترتب عليه إصلاحات كبيرة وسريعة للقطاعات المعنية بالنقد الملكي، لاعتبارات أهمها أن الملكية هي الفاعل السياسي الأول في المغرب، وأن طبيعتها التنفيذية تجعل منها المسؤول الأول عن الأوراش الكبرى، أضف إليه طبيعتها الاعتبارية التي تجعلها فوق نقد السياسيين والمؤسسات التمثيلية، وطبيعتها الدستورية التي تضعها خارج المحاسبة؛ فبعد إعفاء الوزراء الذين حُملوا المسؤولية التقصيرية في برنامج الحسيمة منارة المتوسط، كان أجرأ تفاعل هو الذي صدر عن حزب التقدم والاشتراكية، في بيان قال فيه إن وزراء الحزب «المعنيِّين بهذه القرارات، أدوا مهامهم العمومية بحرص شديد على الامتثال لما تستلزمه المصالح العليا للوطن والشعب، متشبعين في ذلك بقيم ومبادئ الحزب القائمة على الروح الوطنية العالية، وعلى ضرورة التحلي بأقصى درجات النزاهة والصدق والأمانة».

إن انحباس الدور التأطيري وضمور الخطاب النقدي للأحزاب جعلنا أمام جماهير دون نخب، بتعبير وزير الخارجية الأردني السابق، مروان معشر، جماهير تقف أمام الملكية دون واقٍ سياسي، وتصطدم في الشارع بـ«القوات العمومية التي وجدت نفسها وجها لوجه مع السكان»، بتعبير الملك في خطاب العرش السابق. لقد أسفر ضبط الحقل الحزبي، عقب انتخابات 7 أكتوبر 2016، لأول مرة منذ 2008، عن اقتناع بفشل الرهان على حزب الأصالة والمعاصرة، الذي نشأ في كنف السلطة في عهد محمد السادس، وعهد إليه بإقامة نوع من التوازن مع الإسلاميين، حيث جرت العودة إلى نموذج الحزب الإداري الذي أُسِّس في عهد الحسن الثاني (التجمع الوطني للأحرار)، والآن هناك حديث عن تحضير الحزب الذي أُسِّس في عهد محمد الخامس (حزب الاستقلال).

كل ذلك من أجل قص أظافر العدالة والتنمية الذي يعتبر آخر حزب كبير يضم أصواتا تنتقد نموذج الحكم رغم وجوده في الحكومة. 19 سنة من حكم محمد السادس، فتحت خلالها أوراش كبرى مثل ميناء طنجة المتوسطي، وشبكة الطرق السيارة، و«التيجيفي» الذي يعتبر الأول في إفريقيا، ومشروع الطاقة الشمسية الأكبر في العالم، مع تجويد ملموس لمناخ الأعمال، وتنويع في الاقتصاد، وتشجيع للاستثمار.

وعلى المستوى الاجتماعي، كانت هناك خطوات مهمة في مجال محاربة الهشاشة والتهميش، كفك العزلة عن العالم القروي، وإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والعديد من البرامج الاجتماعية، مثل راميد وتيسير… كما عرف المغرب فتح ستة ملفات اعتبرت حرجة، أو ظلت مغلقة في عهد الحسن الثاني، كملف الأمازيغية، من خلال رد الاعتبار إلى المكون الأمازيغي خلال خطاب أجدير لسنة 2001، ثم إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ودسترة اللغة الأمازيغية في 2011، وفتح ملف سنوات الرصاص، ثم تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في 2004، وانحياز الملك الإيجابي إلى المقاربة التقدمية التي جاءت بها الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية في شقها المتعلق بالأحوال الشخصية، وإخراج قانون أسرة مهم في 2004، وتقديم مبادرة الحكم الذاتي في 2007، ثم دعوة الملك إلى «إحداث قطيعة حقيقية مع الأساليب المعتمدة في التعامل مع شؤون الصحراء، وقطيعة مع اقتصاد الريع والامتيازات» في 2015، ثم الآفاق التي فتحها دستور 2011، وأخيرا العودة إلى الاتحاد الإفريقي في 2017، حيث حقق المغرب في ظرف سنة خطوات مهمة، آخرها اعتبار الأمم المتحدة هي المعني الأول بحل الخلاف حول الصحراء، وليس الاتحاد الإفريقي الذي يملك خصوم المغرب حضورا قويا فيه.

لكن، كل هذه الأوراش الكبرى التي فتحت خلال التسع عشرة سنة من حكم محمد السادس، لم تنعكس بشكل إيجابي واضح على حياة المغاربة، ولم تحدث طفرة اقتصادية مثل التي حدثت في دول كتركيا والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند… حيث بعد كل هذه السنوات وكل تلك الأوراش، مازلنا نتحدث عن اختلال النموذج التنموي.

كما أن كل الملفات الحرجة التي فُتحت وعولجت، مازالت تعرف الكثير من النواقص، بل إن بعضها، مثل ملف العدالة الانتقالية، لم يؤدِّ إلى القطع مع كثير من الخروقات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان، والتي قد تتطلب إحداث آلية أخرى للعدالة الانتقالية وبصلاحيات أوسع.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي