19 سنة على حكم الملك محمد السادس.. في الحاجة إلى جيل جديد من الإصلاحات

29 يوليو 2018 - 21:00

على مدى السنوات 19 عاما التي حكم خلالها البلاد، راكم الملك محمد السادس الكثير من المكتسبات للمغرب والمغاربة، إن على المستوى الداخلي أو الخارجي، وإن بدا خلال السنوات القليلة الماضية أن قطار الإصلاح قد توقف، فلأن هناك عوائق تحول دون مزيد من التقدم، وتتطلب إصلاحات جذرية جديدة كما نادت إلى ذلك احتجاجات الريف وجرادة وغيرهما.

منظور جديد للحكم

أبدى الملك محمد السادس رغبة جدية في إصلاح نظام الحكم مباشرة بعد توليه السلطة عام 1999، خلفا لوالده، وقد وجّه رسالة قوية في هذا الاتجاه حين أعفى وزير الداخلية القوي آنذاك، إدريس البصري، ثم شرع في خطوات محسوبة فاجأت الكثيرين، بمن فيهم معارضي نظام الحسن الثاني، الذين رأوا فيه فرصة لإنجاز توافق ديمقراطي.
من بين الخطوات اللافتة في حينه، رفع الإقامة الجبرية على الشيخ عبد السلام ياسين، الزعيم الراحل لجماعة العدل والإحسان، والسماح بعودة المعارض اليساري أبراهام السرفاتي، مرورا بخطاب 12 أكتوبر 1999 الذي أعلن فيه عن “المفهوم الجديد للسلطة”، مدشنا بذلك مرحلة مصالحة بين النظام وخصومه.

عز الدين العزماني، أستاذ العلوم السياسية في أمريكا، يرى أن رغبة الملك محمد السادس في إصلاح نظام حكمه مباشرة بعد توليه الحكم قد نتجت عن ضروريتين: الأولى، ضرورة مواكبة الآمال العريضة للمغاربة في إصلاح يقطع مع الاستبداد، ويوفر فرصا لتحسين أوضاعهم المعيشية؛ وثانيا، ضرورة وضع لمسة جديدة تعكس منهجية وشخصية الملك الشاب. وأضاف “أن المشكلة في البداية لم تكن تتعلق بإرادة الإصلاح التي عبّر عنها الملك صراحة، بل بمضمونه. والمضمون عكسته في السياق رؤية تفترض بأن مشكلة المغرب الكبرى تدبيرية/حكماتية وليست هيكلية سياسية”.

لقد كان الملك، بلغة أحمد عصيد، مثقف وناشط أمازيغي، في حاجة إلى تجديد شرعية نظامه، وبالتالي إلى “خطوات غير مسبوقة”، ومنها “الملفات الخمس الأكثر حساسية”، وهي: ملف الصحراء الذي اقترح فيه بشجاعة “الحكم الذاتي”، وملف المرأة الذي عمل فيه على إجراء تعديلات جريئة في مدونة الأسرة، وملف الاعتقال السياسي وسنوات الرصاص الذي فتح فيه باب الاعتراف والمكاشفة حول تلك الفترة المظلمة من تاريخ بلدنا، من خلال تجربة العدالة والانتقالية والإنصاف والمصالحة، كما عمل على رد الاعتبار للأمازيغية هوية ولغة وثقافة بعد عقود من الميز بإلقائه خطاب أجدير التاريخي وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. لكن عصيد لاحظ أن ملفا آخر تم تأجيله إلى حدود سنة 2011 وهو ملف الإصلاح السياسي والدستوري “حيث ظل العمل خلال 12 سنة السابقة بدستور الحسن الثاني الذي كان إطارا ضيقا جدا لا يتسع للإجراءات الجديدة التي باشرها الملك الجديد”.

لقد سعت الملكية إذن من خلال الإصلاحات التي قامت بها في بداية حكم الملك محمد السادس إلى وضع أسس جديدة في تدبير الحكم، وهي الأسس التي عكستها أيضا الخطب الملكية في مناسبات مختلفة. حسن طارق، أستاذ العلوم السياسية، وفي دراسة له بعنوان “الملكية والإصلاح” كان قد توقف عند الخطب السياسية للملك، مستخلصا أنها وضعت في حينه الإصلاح باعتباره “الهدف الأسمى”، الذي يتعين على المغرب وصوله، وهو “التوجه الاستراتيجي” للبلاد. وقد وضع إطارا عاما لهذا الهدف أطلق عليه حينا “المشروع المجتمعي”، وتارة أخرى “المشروع المجتمعي الديمقراطي التنموي”، كما أطلق عليه في خطب أخرى شعار “المشروع الديمقراطي الحداثـي”، وفي حــالات أخــرى كان يتم الاكتفاء بمفهـوم “المشروع المجتمعي” دون أية إضافة.

وحين يحدد الملك هذا الأفق الإصلاحي، فهو كان يوجّه المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها الحكومة لتجسيد تلك الشعارات والأهداف على أرض الواقع. يقول الملك في خطاب عيد العرش لسنة 2004 “على المؤسسات الدستورية، والهيئات السياسية، والقوى الحية في البلاد، أن تقوم بتجسيد هذه التوجهات على أرض الواقع، من خلال برامج مضبوطة في أهدافها، ووسائل تمويلها، وآماد إنجازها وتقييمها”. لكن في خطاب ملكي آخر في ماي 2005 سيتم التأكيد بشكل أكثر تكثيفا على ما يمكن اعتباره مرتكزات أساسية لهذا المشروع المجتمعي، وذلك من خلال جرد “مبادئ الديمقراطية السياسية والفعالية الاقتصادية، والتماسك الاجتماعي، والعمل والاجتهاد، وتمكين كل مواطن من الاستثمار الأمثل لمؤهلاته وقدراته”.

حسن طارق أبدى ملاحظات على الخطاب الإصلاحي للملك، منها أن “إستراتيجية خطاب المشروع المجتمعي”، أعاد مركزة الملك في قلب النظام السياسي، ليس فقط كحكم فوق الصراعات، وليس فقط كرئيس دولة بمرجعية دينية أو دستورية، بل كذلك كفاعل استراتيجي حامل لمشروع، بغض النظر عن ماهية هذا المشروع وعن إمكانيات تحققه في أرض الواقع. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالطبيعة التوافقية والجماعية لهذا المشروع، “إنه مشروع الملك، وهو غير قابل للنقاش أو للمناقشة أو للمحاسبة، وما على باقي الفاعلين الثانويين سوى العمل على تطبيقه والاجتهاد في حسن تأويله وتجسيده”. وهكذا إذا “لم يقدر لهذا المشروع التحقق، أو اعترضت سبيله عوائق ومثبطات، فإن المسؤولية تقع على الهيئات والمؤسسات الدستورية التي قد تكون، في هذه الحالة، حادت عن التوجهات الملكية، أو أنها لم تجتهد في تطبيقها على الوجه المطلوب، أما إذا تحقق هذا المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، إن كلا أو بعضا، فالفضل في ذلك يعود، بالدرجة الأولى للملك الذي سطر الأهداف والغايات.

الملاحظة الثالثة، ترتبط بالعمر المفترض لهذا المشروع المجتمعي، الذي كثيرا ما يتحول من مجال القيم والمرجعيات الكبرى والمرتكزات الاستراتيجية، إلى مجال البرنامج السياسي المحدد زمنيا ومجال السياسات العمومية، كما هو الحال مثلا في خطاب العرش لسنة 2004، والذي تطرق لبرنامج السنوات المقبلة إلى غاية 2010 مسطرا أهدافا منها: “إيجاد حل نهائي لقضية الصحراء، وتحصين الانتقال الديمقراطي، وترسيخ مبادئ المواطنة الملتزمة عبر استكمال ميثاق التربية والتكوين، وإصلاح الحقلين الديني والثقافي، ووضع عقد اجتماعي جديد، والنهوض بالتنمية القروية وبالقطاع الفلاحي، وبناء اقتصاد عصري منتج ومتضامن وتنافسي، وتعزيز مكانة بلادنا، كقطب جهوي وفاعل دولي، في عالم يعرف تحولات حاسمة ومتسارعة”.

عز الدين العزماني يخلص بناء على هذا التحليل إلى أن العشرية الأولى من حكم الملك محمد السادس، أي ما قبل دستور 2011، تعايشت وتساكنت “منهجية حكم أوتوقراطية ومنفتحة على سياسات نيوليبرالية يفرضها السياق الدولي وتستفيد منها العائلات التي تحظى بحماية النّظام، ثم منهجية تحكُّم أمني يهيمن بمقتضاها النظام على الحكامة والتنمية ويحتكرها مفهوما وممارسة”. وأضاف أن “الرهان على التكنوقراط باعتبارهم مدبّرين جيّدين قد بدا واضحا منذ إغلاق قوس حكومة اليوسفي ثم تكرّر نفس السيناريو مع البلوكاج حيث تم تهميش دور الحكومة بشكل جعلها مثيرة للشّفقة. قد تكون قناعة الملك بأن النخبة التمثيلية غير قادرة على الدفع بنظامه نحو تكيُّفات عميقة مع التحولات الجيواستراتيجيّة من حوله وان أقصى الحدود الممكنة لدورها هو استعمالها كاحتياطي سياسي عندما تكون الحاجة ماسة إليها” كما حدث إبان ثورات الربيع العربي.

على ضوء الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب سنة 2011 ونتائجه السياسية، يرى العزماني أن “الحقيقة التي لا ينبغي التهرب منها هي أن التحولات في الوعي السياسي للمغاربة وبروز شباب يفكر في الديمقراطية بشكل جدي متجاوزا حساسيات وحسابات نخبة “العهد الجديد” التي استهلك القصر وقتا طويلا لترتيب مواقعها في جسم السُّلطة، يجعل من دمقرطة الحقل السياسي حتمية تاريخية”، مؤكدا أن “التعويل على حلول تجريبية لتعويض الفراغ السياسي لا يساعد في تطور وإنضاج الحقل السياسي المغربي ودمقرطته، وبالنتيجة تجنيبه مما قد يعصف به من أزمات، وان امام المغرب السياسي فرصة لاستكمال ما انطلق من أفكار وصيغ حول التعاقد السياسي والاجتماعي في ضوء دستور 2011، حيث تكون الديموقراطية مرتكزا للتنمية وتكون التنمية تعبيرا عن نجاعة السياسات العمومية”.

البحث عن التنمية

في سياق الرهان على التكنوقراط بدل الساسيين، منح الملك محمد السادس الأولوية للاقتصاد والتنمية حيث أبدى طموحا لا يقارن مع والده، وفق رؤية عكستها مبكرا الرسالة التي وجهها إلى الوزير الأول الأسبق عبد الرحمن يوسفي بتاريخ 16 دجنبر 1999، حيث تم التأكيد على أنه “إذا كان لابد من ترتيب أولويات إستراتيجية عملنا المستقبلي، فواضح أنه يتعين التطلع إلى تسريع أنساق النمو الاقتصادي بوتيرة تمكن من تحسين ظروف عيش المواطنين وإرضاء حاجياتهم الأساسية من ضمان صحي وسكن لائق مع الاستجابة لمتطلبات التشغيل، ولاسيما تشغيل الشباب الذي يجب أن يكون على رأس ما نحن به معتنون ومهتمون”.

وتضيف الرسالة الملكية تسطير الأولويات من خلال الحديث عن تنمية العالم القروي وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر تشجيع الصادرات وتنويعها وإنعاش السياحة وتنمية الصيد البحري وتحسين جودة واندماج المنتوج الصناعي، مع الحرص على تحقيق التوازنات الاجتماعية وعلى الاهتمام بالعنصر البشري عبر إصلاح النظام التربوي والتعليمي. وفي سنة 2001، أعلن الملك عن إحداث المراكز الجهوية للاستثمار، مؤكدا على نفس المنحى.

كريم التازي، رجل أعمال، أقر أن الملك محمد السادس اهتم أكثر بالتحدي الاقتصادي، الدليل على ذلك “مشروع ميناء طنجة المتوسط، الذي ظهر في البداية كمشروع كبير جدا، إذ لم يكن أحد يصدق أن المغرب سيقدر على تمويله ولا على إنجازه، وتم تشييده وتبين أنه ناجح وأصبح ثاني أكبر ميناء في البحر الأبيض المتوسط وخلق صناعة بأكملها وهي صناعة السيارات بالمغرب ويمكن أن يخلق منطقة صناعية يمكن أن نقول إيكولوجية. المثال الثاني على الطموح الاقتصادي للملك، بحسب التازي، يتمثل في مشروع “نور” للطاقة الشمسية، حيث انتقلنا من نسبة في الطاقة المتجددة كانت تمثل في الإنتاج الوطني 0 في المائة، لكن اليوم تقريبا نحن نسير في اتجاه 35 في المائة في واحد من أكبر المركبات الدولية على الصعيد العالمي للطاقة الشمسية، وأصبح المغرب من رواد الطاقة الشمسية على الصعيد الإفريقي.

ويضيف التازي مثالا ثالثا، له أهميته وهو الدور الاقتصادي الذي أصبح للمغرب على الصعيد الإفريقي، فإذا نظرنا إلى الحالة التي ورثها محمد السادس عن والده، فأولا كان المغرب خارجا عن الاتحاد الإفريقي، وثانيا ذهنية المغاربة وثقافتهم كلها كانت ذهنية مبنية على عقدة تجعلهم مهووسين بأوروبا والعالم الغربي ولا يعتبرون أنفسهم أفارقة بالكل، علما أن تاريخ المغرب كله مرتبط بإفريقيا، حيث أن الحسن الثاني استطاع بما يمكن أن نطلق عليه “معجزة سلبية” أن يقطع المغرب عن جذوره الإفريقية وغير حتى عقلية الشعب المغربي بحيث محا منها الانتماء إلى القارة الإفريقية، واستطاع محمد السادس في ظرف عشر سنين فقط، أن يعيد ربط المغرب بجسده الإفريقي، ومن ناحية ذهنية المغرب استطاع محمد السادس إعادة ربط المغاربة بجذورهم الإفريقية.

كريم غلاب، وزير سابق وقيادي في حزب الاستقلال، يتقاسم نفس التحليل، إذ يرى أن المغرب حقق تطورا ملحوظا على جميع المستويات، مفضلا التركيز على مجال البنيات التحتية وشبكة الطرق السيارة، “ففي بداية الألفية الحالية، كانت الطرق السيارة في المغرب لا يتجاوز طول شبكتها 400 كيلومتر، أما اليوم فقد بلغت أكثر من 1800 كيلومتر”، متحدثا في نفس السياق عما اعتبره “مفخرة أخرى” تتمثل في “القطار الفائق السرعة الذي سينطلق خلال الأسابيع المقبلة والذي سيكوّن له ثقل كبير باعتبار المغرب أول بلد إفريقي يملك هذه التقنية”.

واعتبر غلاب أن “كل هذه الاستثمارات المثمرة قد لا تكون نموذجا تنمويا شاملا بالنسبة للمغرب، ولكنها تعطي أساسا ضروريا جدا لبناء خريطة تنموية وأسس متينة لتنمية اقتصادنا الوطني، حيث أن البنية التحتية تساهم في تطوير النشاط الاقتصادي وتشجع الاستثمار الوطني والخارجي وبالتالي تحدث مناصب شغل جديدة يستفد منها الشباب”.
وإن كانت هذه المشاريع التنموية قد حققت مكاسب مهمة للمغرب، إلا أن نجيب أقصبي، خبير اقتصادي، يرى أنها بلغت نهايتها، تماما كما أعلن الملك محمد السادس عن ذلك فيما وصفه بـ”فشل النموذج التنموي”.

أقصبي تساءل عن السبب في هذا الفشل، قائلا:”الجميع يتحدّث عن فشل النموذج التنموي والاقتصادي المغربي؛ لكن لا أحد يستطيع أن يشير إلى مكمن الخلل”. مؤكدا أن “السبب الحقيقي لهذا الفشل هو الملكية التنفيذية التي أصبحت العقبة الحقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المغرب، حيث إنها تظل بعيدا عن المحاسبة نظرا لكون أن الملك يبقى فوق كل السلط”، على حد تعبيره. وشخَّص أقصبي الوضع قائلا:”كل المحللين كانوا يتحدثون عن الإصلاحات والمشاريع التنموية التي باشرها المغرب خلال العشرية الأخيرة، إذ كان الاهتمام منصبًا على بعض الأوراش التي همَّت البنية التحتية والمواصلات، قبل أن يأتي الاعتراف الملكي الأخير الذي أقرّ بفشل النموذج التنموي وبضرورة فتح النقاش حول الواقع الاقتصادي بالبلاد، وهو اعتراف، اعتبره أقصبي، بأنه جاء متأخرا”.

وأضاف أن “الملك دعا إلى إعادة النظر في النموذج التنموي منذ أكثر 4 سنوات ولو بطريقة غير مباشرة، عندما تساءل عن مصير الثروة في المغرب، وقد تم تخصيص وقتها موارد كبيرة للقيام بدراسات وتقارير حول الحالة الاقتصادية بالمملكة”. ويمضي أقصبي إلى القول أنه “بعد مرور 3 سنوات على خطاب “الثروة”، عاد الملك نفسه في خطاب آخر ليعترف بفشل النموذج التنموي برمّته، دون أن تُؤخذ التوصيات التي تم إصدارها خلال تلك الفترة بالجدية المطلوبة”.

وأوضح مؤلف كتاب “الاقتصاد السياسي والسياسات الاقتصادية” أنه في المغرب “البرنامج الوحيد الذي يلاحظ الجميع تنفيذه على أرض الواقع، هو البرنامج الملكي” الذي لا يخضع للنقاش العمومي. واعتبر أن “الحل لتحقيق التنمية يكمن في أولا: “تجاوز النمط الاقتصادي الحالي الذي يعتمد على الزبونية والمحسوبية واحتكار الثروة”، ثانيا: “الاهتمام بالتكوين والتكوين المستمر لبناء الكفاءات، والاتجاه نحو التصنيع الذي يساعد على تحقيق الموارد”.

الحريات.. السؤال المعلق

من الجبهات الأخرى التي حقق فيها الملك محمد السادس مكتسبات مهمة، طي صفحة الماضي ووضع الأسس القانونية والمؤسساتية للنهوض بالحقوق والحريات، من خلال خطوات متتالية، ففي أول خطاب للعرش سنة 1999، أعلن عن طموحه في السير بالمغرب نحو “الحداثة والتطور””، وجعل هدفه “إقامة دولة الحق والقانون وصيانة حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية وصون الأمن وترسيخ الاستقرار للجميع”. وإن خلا ذلك الخطاب من تناول قضية حقوق الإنسان، فقد أفرد لها حيزا واسعا في ثاني خطاب له كملك، أي خطاب ثورة الملك والشعب من نفس السنة، حيث أبدى الملك حزما في التصدي لكل من لا يلتزم بهذا التوجه الجديد قائلا: “ندعو الجميع بحزم وصرامة وبدون لين أو هوادة إلى لزوم مقتضيات دولة الحق والقانون، في إطار الحريات التي يضمنها الدستور للأفراد والهيئات، وفي نطاق القوانين الإجرائية التي تضبط ممارسة هذه الحريات”.

مهّد هذا الخطاب لمبادرات أعطت له مضمونا واضحا، فقد دعا الملك الجديد الهيئة المستقلة للتعويض التي كانت تعمل من داخل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان إلى مواصلة عملها، في تحديد تعويضات لضحايا الاختفاء والاعتقال التعسفي، وفي سنة 2000، طُرح على جدول أعمال الملك ملف حقوق المرأة، بعد إعلان حكومة عبد الرحمان اليوسفي عن المبادرة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، انقسم المجتمع حولها بين مؤيدين ورافضين، ما دفع الملك إلى تفعيل وظيفة التحكيم بينهما، ودعا إلى إعادة النظر في مدونة الأحوال الشخصية، ثم كلّف لجنة استشارية للقيام بذلك، كان من نتائج عملها وضع مدونة الأسرة المعمول بها حاليا.

لكن تبقى أقوى المبادرات التي ميّزت حكم الملك محمد السادس خلال السنوات 18 الماضية، تأسيسه في يناير 2004 هيئة الإنصاف والمصالحة لطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة ما بين 1956 و1999، وقد حدد الملك مهمة تلك الهيئة في “الطي النهائي لهذا الملف، بتعزيز التسوية العادلة غير القضائية، وتضميد جراح الماضي، وجبر الضرر، بمقاربة شمولية، جريئة ومتبصرة، تعتمد الإنصاف ورد الاعتبار، وإعادة الإدماج، واستخلاص العبر والحقائق لمصالحة المغاربة مع ذاتهم وتاريخهم، وتحرير طاقاتهم، للإسهام في بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي، الذي يعد خير ضمان لعدم تكرار ما حدث”.

والمعنى من هذا الخطاب أن المغرب اختار مقاربة “العدالة الانتقالية”، التي تبنّتها عدد من الدول في العالم، بوصفها مقاربة بديلة لـ”العدالة العقابية”، في معالجة آثار الجرائم السياسية التي ارتكبتها الدولة ضد معارضيها. وترتكز مقاربة العدالة الانتقالية على السعي إلى “المصالحة بين قوى وأطراف متعارضة، من خلال تدابير الكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر، والحفاظ على الذاكرة الأليمة، والالتزام بالتخلي عن العنف في تدبير الخلافات السياسية”، يقول عبد الحي المودن، أحد أعضاء الهيئة في دراسة له حول “العدالة الانتقالية والسلطوية الملبرلة”.

وفعلا، اشتغلت الهيئة التي ترأسها إدريس بنزكري، وبعضوية محامين وحقوقيين وقضاة وسياسيين، طيلة أزيد من سنة ونصف، أنهت عملها بتقرير مفصل حول الانتهاكات الجسيمة في عهد الملك الحسن الثاني، مشمولا بتوصيات استهدفت تحصين المغرب من تكرار ما جرى في الماضي، بالدعوة إلى تعزيز حماية حقوق الإنسان، وإقرار الحكامة الأمنية، وإصلاح التشريعات الجنائية، وإقرار استراتيجية وطنية لعدم الإفلات من العقاب، وهي توصيات وافق وصادق عليها الملك، في سياق حقوقي وسياسي غير طبيعي تشكل بعد أحداث 16 ماي 2003.

لم يكن خيار العدالة الانتقالية متفقا حوله بين الهيئات الحقوقية، إذ أن بعضها طالب بإعمال مقتضيات “العدالة العقابية” في حق المسؤولين عن ماضي الانتهاكات. عبد الإله بن عبد السلام، حقوقي ونائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان سابقا، يؤكد في حديث مع “أخبار اليوم”، أن الجمعية “تحفظت حول هذا الخيار، لأنه يستبعد المساءلة والحقيقة، ولا يتضمن الاعتذار العلني للدولة عن الانتهاكات، لكننا اعتبرنا أن توصيات الهيئة كانت مهمة، وطالبنا مرارا بتفعيلها”.

لقد أقدمت الدولة على تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في سياق مضطرب بعد أحداث 16 ماي 2003، المتسمة بالغموض حتى الآن، وهي الأحداث التي استغلتها السلطات بعد 12 يوما على وقوعها لإقرار “قانون الإرهاب”، ثم شن حرب شاملة ضد الإسلاميين، الذين اعتقل منهم حوالي 8 آلاف شخص، وتوفي منهم البعض في ظروف غامضة أمثال محمد بوالنيت (أستاذ الفلسفة)، وسجن المئات بأحكام وصفت بـ”القاسية”، كما تم تهديد حزب العدالة والتنمية بالحل واعتقال قياداته، بعدما تم تحميله المسؤولية المعنوية.

وقد سجّلت المنظمات الحقوقية جميع تلك الانتهاكات في تقارير عدة، منها التقرير الشهير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” سنة 2009 بعنوان مثير “المغرب: كفاك بحثا عن ابنك”، تطرق للاعتقالات التي وصفها بـ”غير القانونية”، وعودة “التعذيب ومختلف ضروب المعاملة غير الإنسانية”، و”الاختطاف”، ووفّر لدول مثل أمريكا “أماكن احتجاز سرّية”، كل ذلك مرفقا بشهادات مكتوبة للضحايا، وخلص التقرير إلى القول إن “الانتهاكات الجسيمة مستمرة” في المغرب، وإنه قد فشل في تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة.

وفي 2010 جاءت الضربة القاضية لتقرير هيئة الإنصاف والمصالحة من لدن “منظمة العفو الدولية”، التي نشرت تقريرا قويا حول مدى التزام السلطات بتنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة بعنوان “المغرب: الوعد الضائع”، أكدت فيه أن المغرب قد خالف وعوده بالقطع مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

ومع تزايد الاقتناع بأن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة قد تم الالتفاف عليه، أجبرت ثورات الربيع العربي السلطات على إعادة النظر في توجهاتها. ففي خطاب الملك محمد السادس ليوم 9 مارس 2011، أعلن عن دسترة توصيات الإنصاف والمصالحة كاملة، وهو التوجه الذي كرّسه الباب الثاني من الدستور الذي جاء بعنوان “الحقوق والحريات”، ومتناغما مع المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، وينص على حمايتها، وعلى طابعها الكوني.

لكن عبد الإله بنعبد السلام يرى أن الوقائع تأتي دائما لتناقض النصوص “في العشرية الأولى، وترافق مسلسل الإنصاف والمصالحة، مع استمرار الانتهاكات الجسيمة بعد أحداث 16 ماي 2003، بحيث أنها اتخذت طابعا ممنهجا ومتواترا وجسيما وكثيفا”، وأردف “ثم بعد دستور 2011 الذي تضمن مقتضيات مهمة وإيجابية، نلاحظ أن التراجعات أقوى، سواء على مستوى احترام الإرادة الشعبية في الانتخابات، أو تفعيل الدستور واحترامه، والتضييق على مجال الحريات، سواء حريات التعبير والرأي أو حريات المدافعين عن حقوق الإنسان، علاوة على تدهور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية”، ويرى بنعبد السلام أن “التراجعات التي نعيشها اليوم سببها أن الإرادة السياسية للانتقال من دولة المخزن ومجتمع الرعايا إلى دولة الحق والقانون ومجتمع المواطنة غير متوفرة حتى الآن، ما يجعلني على اقتناع بأن المغرب مثل برميل بارود قابل للانفجار في أي وقت”.

ويضيف بنعبد السلام أنه على “مستوى حرية الرأي، هناك محاكمات غير عادلة للصحافيين، سواء المتابعين في ملف “حراك الريف”، أو لمدير “أخبار اليوم”، توفيق بوعشرين”. ما يجعل العنوان العريض لهذه الفترة “هو الإجهاز على الحقوق عبر نهج مقاربة قمعية، بدل الاستماع لنبض الشارع وبحث سبل حل مشاكله، سواء على المدى المتوسط أو البعيد”.

الأفق غائم

إذا كان البلوكاج السياسي الذي انتهى بإزاحة رئيس الحكومة المعين عبد الإله بنكيران من الحكومة، وإذا كان الملك نفسه من أعلن فشل النموذج التنموي، وإذا كان وضع الحريات سلبيا وفق أحدث التقارير الدولية، فإن الأفق السياسي اليوم يبدو غائما فقد فيه الكثيرون الوضوح في الرؤية.

المعطي منجب، حقوقي ومؤرخ، يخلص إلى ” أننا وصلنا إلى مرحلة الفشل السياسي، أي فشل ما سمّاه البعض بالانتقال الديمقراطي”، مؤكدا “أن النظام حاليا هو نظام استبدادي دون “روتوش”. لأن دستور 2011 احتُرمت بعض مقتضياته الايجابية إلى حدود سنة 2013، ليتقهقر المغرب تدريجيا وخصوصا منذ 2016 بشكل رهيب نحو ممارسة سياسية بالغة في سلطويتها وعنفها ضد المعارضين والمنتقدين. ولم يبق للقضاء أي هامش من الاستقلالية بل أصبحت تسيره أجهزة الأمن السياسي، فيما يخص القضايا السياسية خصوصا”.

وأضاف أن “النظام أصبح يعتبر المنتقدين أعداء له يجب تصفيتهم معنويا عن طريق صحافة التشهير التابعة له، وتصفيتهم حقوقيا عبر القضاء الجائر، وذلك بالحكم عليهم بمُدد سجنية طويلة كما وقع في حالة ناصر الزفزافي ومن معه”.

ويرى اسماعيل العلوي، زعيم حزب التقدم والاشتراكية، أن المغرب وصل إلى مرحلة “نحتاج فيها إلى عملية مراجعة الذات، بشكل سريع ما يجعل الدولة تتخلص شيئا ما من سلوك الوازع الأمني المبالغ فيه، وأن يتعرف المواطنون على حقوقهم أكثر، والمطالبة بها بطريقة أنجع، نحن لسنا كالسويد والدانمارك نحن بلد ثلث سكانه لا يقرؤون ولا يكتبون وأميون.. وأحيانا كثيرة لا يستطيعون إدراك ما يجري حولهم، لذلك أرى أنه وجب أيضا تقنين الحق في التظاهر”.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي