لماذا تعثرت خطة تحرير العملة المغربية؟

13 أغسطس 2018 - 10:00

في شهر أبريل 2016 أعلن بنك المغرب عن تبني خطة تحرير العملة الوطنية، التي ستمكن المغرب من الانتقال من نظام الصرف الثابت الذي يربط الدرهم المغربي بالأورو (بنسبة 60%) والدولار (بنسبة 40%)، إلى نظام صرف مرنتتحرر فيه العملة المغربية من هذا الارتباط. وستمرتلك الخطةعلى ثلاث مراحل: في مرحلة أولى سيتم توسيع مجال تغير قيمة الدرهم تحت رقابة البنك المركزي، وفي مرحلة ثانية سيتم تحديد قيمة الدرهم بشكل تدريجي بناء على قانون العرض والطلب في السوق النقدية تحت رقابة محدودة للبنك المركزي، وفي مرحلة أخيرة سيتم المرور إلى التحرير الكامل لصرف الدرهم. وتشير بعض التوقعات إلى أن التحرير الشامل قد يستغرق حوالي 15 عاما، دون أن يحدد البنك المركزي أفقا زمنيا محددا. لقد كان بنك المغرب عازما على إطلاق هذا المشروع خلال شهر يونيو من عام 2017، إلا أنه تراجع عن ذلك في اللحظة الأخيرة بسبب المضاربات التي قامت بها البنوك في الأسابيع التي سبقت عملية الإعلان عن بدء المرحلة الأولى من التحرير، والتي أدت إلى تجفيف السوق النقدية من مخزون العملات الأجنبية، مما هدد قيمة الدرهم بالانخفاض بمجرد توسيع هامش صرفه. وفي منتصف شهر يناير من العام الموالي أعلن بنك المغرب ووزارة المالية مجددا عن تنفيذ الخطة ولكن هذا القرار بدا مرتبكا بحيث تم الإعلان عنه يوم الجمعة 12 يناير الذي سبقه يوم عطلة وطنية (11 يناير) والذي تليه عطلة نهاية الأسبوع (يومي السبت والأحد) وهو مالم يترك أية فرصة للمضاربات في سوق العملة،وأظهر في الآن ذاته تخوفات المسؤولين المغاربة من مآلات السياسة الجديدة، كما أظهر أيضا حجم التردد الذي طبع مراحل تنفيذ هذه السياسة.

من خلال نظرة أولية على المؤشرات الاقتصادية يظهر أن المناخ الاقتصادي في المغرب مناسب لتطبيق سياسة الصرف الجديدة.فمعدل التضخم منخفض نسبيا في البلد(أقل من1,8 في المائة)، كما أن احتياطي العملات الأجنبية يكفي لتغطية احتياجات الاقتصاد المغربي لمدة تفوق ستة أشهر، يضاف إليه انخفاض عجز ميزانية الدولة، والوضعية المريحة للبنوك المغربية التي حققت نتائج مالية جيدة خلال السنوات الماضية، بالإضافة إلى الاستعدادات المبكرة للبنك المركزي لتطبيق هذه السياسة .ولكن رغم كل هذه المؤشرات الايجابية، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لنجاح هذه السياسة النقدية الجديدة. لماذا إذن تعثرت خطة تحرير صرف الدرهم المغربي؟

 تأجيل بطعم الفشل

قبل أقل من أسبوع من الموعد المحدد في يونيو 2017، أعلن بنك المغرب بشكل مفاجئ تأجيل تحرير الدرهم إلى أجل غير مسمى. وقد أشار البنك المركزي ضمنيا أياما قبل ذلك بأصبع الاتهام للأبناك التجارية متهما إياها بالقيام بمضاربات في سوق العملات من خلال عمليات شراء واسعة لمخزون العملة الصعبة الموجودة في السوق النقدية الوطنية والتي أدت إلى تخزين ما يفوق 40 مليار درهم (حوالي 4 مليار دولار أمريكي) في صناديق الأبناك، منتظرة الإعلان عن تحرير صرف العملة المغربية. وتسببت هذه المضاربات واسعة النطاق التي قام بها كبار الفاعلين البنكيين في سوق العملات الأجنبية فيشح على مستوى السيولة، كما امتنعت الأبناك في الآن ذاته عن تزويد المستوردين المغاربة بالسيولة اللازمة لتمويل مشترياتهم من الأسواق الخارجية.

لا تعارض قوانين سوق المضاربات التي قامت بها الأبناك المغربية، لكن يعكس سلوكها هذا رغبة جامحة في تأمين ربح سريع بعد تحرير الدرهم، وهو ربح متوقع بناء على توقعاتها للمستقبل القريب والمتوسط التي كانت مبنية على فرضية أن توسيع مجال صرف الدرهم في مرحلته الأولى سيؤدي إلى انخفاض مؤكد لقيمته وارتفاع قيمة العملات الأجنبية كنتيجة لذلك.ولهذا فقد قامت بمضاربات واسعة لملئ خزائنها بالعملات الأجنبية للاستفادة من هامش ارتفاع قيمتها مقابل الدرهم بمجرد تحريره وتفادي خسائر مالية في الآن ذاته.

في الواقع، كان البنك المركزي يتوقع أن تتصرف البنوك بشكل يتوافق وانتظاراته؛ بطريقة تعاونية في إطار قواعد اللعب التي يشرف البنك المركزي على وضعها. ومن ثمة لم يكن يتوقع أن تقوم البنوك بتجفيف السوق من العملات الصعبة، التي ستدعم قيمة الدرهم بعد التحرير الجزئي، بسبب ما يقدره هو من ثقة هذه الأبناك في متانة العملة المغربية ومؤسساته الاقتصادية. لكن ذلك لم يحصل.ما حصل بالفعل هو العكس تماما، حيث عبرت البنوك بسلوكها قبيل انطلاق عملية تحرير الدرهم عن فقدان ثقتها في متانة المؤسسات الاقتصادية، وهي حقيقة طالما تمت تغطيتها بالخطابات السياسية المطمئنة، كمن يحاول تغطية الشمس بالغربال.

الثقة في المؤسسات

دافعت الحكومة عن توجهات البنك المركزي بخصوص سياسة الصرف الجديدة التي جرى الإعداد لها، وأكدت في عدة مناسبات دعم وزارة المالية لعمل البنك المركزي الذي يتمتع باستقلالية مؤسساتية عن السلطة التنفيذية كما تنص على ذلك المادة الأولى من القانون الأساسي 76-03 المنظم لعمل بنك المغرب. وحتى عندما قام البنك المركزي بتغيير موقفه وإعلان تأجيل موعد  تحرير العملة، عبرت الحكومة عن موافقتها الضمنية على هذا القرار، وهو ما يمكن تفسيره بكونه متوافقا مع رغبة الحكومة في الحفاظ على استقرار التوازنات الاقتصادية الكبرى وخوفها من أن يؤثر تحرير الدرهم سلبا على القدرة الشرائية للمواطن مما سيسبب لها متاعب اجتماعية هي في غنى عنها، لا سيما في ظل مناخ اجتماعي محتقن، اشتعل منذ وفاة بائع السمك “محسن فكري” بمدينة الحسيمة شهر أكتوبر 2016، الذي تلته احتجاجات واسعة النطاق في منطقة الريف وفي مناطق أخرى من المملكة. وبالرغم من الدعم الرسمي الذي لقيه بنك المغرب، إلا أنه فشل بسبب الفجوة الموجودة بين توقعاته لسلوك الأبناك التجارية وبين حسابات هذه الأخيرة، والتي تشي بغياب الثقة بين الطرفين، وإلى غياب ثقة الأبناك المغربية في بنية الاقتصاد الذي تنشط في إطاره. وهو يحيل إلى مشكل أعمق وهو ضعف ثقة الأفراد والفاعلين في المؤسسات الاقتصادية والسياسية، ويكشف مدى هشاشة المؤسسات والقواعد المؤطرة للاقتصاد والدولة والمجتمع. بالإضافة إلى ذلك،لا يجب أن نغفل سببا خارجيا عزز من مخاوف فشل تجربة تحرير العملة. لقد خيمت التجربة المصرية الفاشلة في تحرير الجنيه على المغرب وضاعفت من تخوفات البنكيين والمواطنين. فنتيجة لارتباك الحكومة المصرية في تنفيذ قرار تحرير الصرف تراجعت قيمته في سوق الصرف وهو ما أدى إلى مستويات عالية من التضخم. لقد سيطرت التجربة المصرية على نشرات الأخبار الرئيسية لعدة أشهر، مما جعل أي مشروع جديد لتحرير العملة في المنطقة محكوما عليه مسبقا بالفشل من طرف الرأي العام المحلي.

في الواقع يؤكد النموذج المصري مرة أخرى درسا للمغرب حول أهمية الثقة في المؤسسات ومتانتها لإنجاح الإصلاحات الاقتصادية. ففي ظل أجواء سياسية واقتصادية شهدت تراجعات وتآكلا للثقة في المؤسسات المغربية خلال سنتي 2016 و2017، حفرت الدولة قبر هذا الإصلاح بيديها قبل أن يولد، وأدى إضعاف المؤسسات إلى ردود فعل سلبية تجاه المشروع الجديد من طرف الفاعلين البنكيين، وإلى تخوفات شعبية من تنفيذه.

وبشكل عام، فإن هشاشة المؤسسات السياسية والاقتصادية تعتبر مسألة معروفة في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أنها لا تؤخذ بشكل جدي لتفسير الإخفاقات الاقتصادية المستمرة. فالسبب الرئيسي في فشل جل الإصلاحات الاقتصادية خلال العقود الأخيرة يرجع إلى رغبة النخب الحاكمة في السيطرة على المؤسسات السياسية والاقتصادية وتطويعها لخدمة مصالحها الفئوية بعيدا عن مصالح المواطنين والمستثمرين المستقلين. ونتيجة لذلك تزعزع مناخ الثقة، وتسبب في تآكل مصداقية المؤسسات الاقتصادية أمام مصالح نخب “رأسمالية المحاباة” التي ضربت بجذورها في أغلب هذه الدول، مما جعل اقتصاديات هذه البلدان تتميز بفوارق اجتماعية كبيرة ونسب فقر عالية.

لم يشكل المغرب استثناء عن هذه القاعدة.فرغم أنه يعيش استقرارا سياسيا ومؤسساتيا نسبيا منذ 2011، إلا أن طبيعة المؤسسات السياسية والاقتصادية لا زالت تتميز بالهشاشة. ومن ثمة يمكننا أن نفهم سلوك الفاعلين البنكيين تجاه سياسة الصرف الجديدة ومضارباتهم الواسعة من خلال النظر إلى ثقتهم في المؤسسات التي تحكم واقعهم. إن تصرفهم يعكس في العمق أزمة ثقة في صحة الاقتصاد الوطني، ويعكس غياب الثقة هذا هشاشة مؤسساتية بنيوية. تؤكد العديد من التقارير الدولية هذا الواقع. فخلال العقدين الماضيين سجل المغرب مراتب متأخرة على مستوى تمتين المؤسسات، وظل يسير بين سرعة بطيئة في مسار الإصلاح المؤسساتي من جهة وبين تراجعات على مستوى عدد من المؤشرات، مثل مكافحة الفساد وحماية حقوق الملكية، وهو ما يؤكد الشكوك حول جدية الالتزام بالإصلاح المؤسساتي في المغرب. فعلى مستوى حماية حقوق الملكية، التي تعتبر المؤشر المؤسساتي الأهم الذي يقيس قدرة المؤسسات على حماية ملكية الأفراد الخواص، يعتبر المغرب من بين البلدان التي تدهور فيها هذا المؤشر ما بين سنتي 1980 و2016؛ إذ انهار هذا المؤشر من 70 نقطة سنة 1995 إلى 40 نقطة من أصل 100 نقطة سنة 2016 حسب مؤشرات مؤسسة إيريتاج فوندايشن. وهذا التراجع يفسر نسبيا محدودية جذب الاستثمارات الخارجية للمغرب، وكذا بطء دينامية الاستثمار المحلي. ففي النهاية يؤدي انتهاك الملكية الخاصة وعدم قدرة القوانين والمؤسسات على حمايتها إلى تعطيل الدينامية الاقتصادية ككل.

انهزمت الثقة في الاقتصاد المغربي أيضا أمام آلة الفساد التي تنخر الادارة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية سواء بسواء. لقد بينت مؤشرات منظمة الشفافية العالمية تراجع المغرب في مؤشر إدراك الفساد حيث انتقل من الرتبة 72 سنة 2007إلى الرتبة 90 من أصل 176 بلدا على مستوى العالم سنة 2016. كما أكدت مؤسسة إيريتاج فوندايشن نفس التوجه، إذ أن مؤشر محاربة الفساد والرشوة انخفض من 50 نقطة من أصل 100 نقطة إلى 39 فقط بين سنتي 1995 و2016. وهناك شبه إجماع في المغرب على فشل الدولة في مكافحة الفساد.

إن وضعية الهشاشة التي تعاني منها المؤسسات الاقتصادية ليست إلا جزءا من المشكل المؤسساتي الأكبر، الذي يتجلى أيضا في هشاشة المؤسسات السياسية؛ ففي هذا الجانب يعاني المغرب من استمرار الممارسات السلطوية، وتعثر الانتقال الديمقراطي، ومن ضعف حماية حقوق الإنسان، والتضييق على حرية التعبير والرأي، والرقابة على عمل المجتمع المدني وضعف الحكامة في أغلب المجالات

في الحاجة إلى استرجاع الثقة في المؤسسات

رغم المناخ المؤسساتي الهش ولكن هناك بعض الضوء في نهاية النفق. فقد أظهرت تجربة حكومة عبد الإله بنكيران (2012-2016) أنه كلما كانت الحكومة تتمتع بالمصداقية والإرادة كلما كانت لديها القدرة على مباشرة الإصلاحات المؤسسات الأساسية. لقد حاولت حكومة بنكيران السابقة تنفيذ بعض الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية والتي كان تحرير العملة الوطنية جزءا منها. وقد نجحت في بعضها، لا سيما الاصلاح الجزئي لصندوق المقاصة (صندوق الدعم الموجه لبعض المنتجات الاستهلاكية الأساسية)، وإصلاح أنظمة التقاعد، وكذا التحرير الجزئي لأسعار المحروقات ورفع الدعم عنها، وهي إصلاحات عجزت كل الحكومات التي سبقتها عن تنفيذها. ويرجع الفضل في ذلك أساسا إلى المشروعية السياسية التي كانت تتمتع بها الحكومة، والشجاعة في اتخاذ بعض القرارات الاقتصادية رغم المخاطر السياسية والاجتماعية التي كانت تتضمنها عدد من تلك الإصلاحات. في حين فشل الإصلاح المتعلق بتحرير سعر صرف الدرهمبسبب ضعف حكومة سعد الدين العثماني الجديدة وعدم انسجام مكوناتها مما عمق بالتالي من مخاوف الفاعلين البنكيين في أداء الاقتصاد الوطني في ظل مناخ يطبعه فقدان الثقة المتزايد 
في مؤسسات البلد.

خلاصات وتوصيات: كيف يمكن إنقاذ الخطة من الفشل؟

لآن بعد إطلاق الخطة الجديدة لا تزال العوامل المهددة لنجاحها حاضرة بقوة. فرغم أن السلطات النقدية حددت هامش صرف الدرهم في+/- 2.5%مقارنة مع نظام الصرف الثابت، إلا أن الدرهم فقد قيمته في الأيام التالية لتحريره الجزئي، بحيث انخفض أمام الأورو الذي انتقل من 10,20 درهم لكل أورو قبيل التحرير الجزئي إلى 11,60 درهم للأورو الواحد أياما بعد بدء الخطة وهو ما أكد صحة توقعات المضاربين، مما ما يجعل أية خطوة للمضي في طريق التحرير الكامل محفوفة بكثير من المخاطر. ومن ثمة على السلطات النقدية التفكير مليا في الآثار الاقتصادية والاجتماعية المحتملة على تحرير الدرهم في حالة ما لم يتم تمتين مؤسسات الاقتصاد الوطني.

من جهة أخرى سيوفر تحرير الدرهم المغربي منافع مهمة للاقتصاد المغربي، فبإمكان هذا التحرير أن يدعم النمو الاقتصادي المغربي، باعتبار أنه سيقوي حظوظ المغرب في خلق قطب مالي في مدينة الدار البيضاء وهو مشروع لا يمكن له أن يتحقق إلا في ظل سوق نقدية حرة، كما سيسمح بدعم الانفتاح التجاري المغربي على الأسواق الخارجية وتحسين تنافسية المنتجات المغربية وتقليص العجز التجاري، كما سيخلق دينامية جديدة في السوق السياحية خصوصا خلال فترات انخفاض قيمة الدرهم مما سيجلب مزيدا من الزبناء للوجهة المغربية. لكن هذه الأهداف ستبقى أهدافا مؤجلة إلى حين تمتين المؤسسات وتنفيذ الإصلاحات الضرورية وعلى قائمتها تحرير صرف العملة المغربية وليس توسيع هامش الصرف في مجال ضيق جدا كما هو الوضع حاليا.

لكن تحقيق هذه الأهداف من خلال سياسة تحرير العملة سيبقى حلما بعيد المنال في ظل الشروط الحالية. فبالتأكيد لن يتم إنجاح تحرير العملة في المغرب إذا لم يتم القيام بمعالجة الخلل المؤسساتي الذي أدى إلى تعثر الانتقال السلس إلى نظام الصرف الحر. إن تمتين المؤسسات السياسية والاقتصادية وتجويدها وخلق مناخ ثقة عال في اقتصاد البلد يعتبر شرطا أساسيا لإنجاز هذا الإصلاح وكل الإصلاحات الاقتصادية الأخرى. بل من الآن فصاعدا سيبدو تنفيذ أي إصلاح اقتصادي هيكلي مسألة عسيرة في ظل مناخ فقدان الثقة السائد، وفي ظل عدم الالتزام بالقواعد المؤسساتية التي لا تبدو جدية إلا على الورق. ومن هنا فإن استرجاع الثقة في العملية السياسية تعتبر سابقة لأي إصلاح اقتصادي.

رشيد أوراز

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي