تركيا أردوغان.. من الإسلام العتيق إلى الإسلام الأنيق

15 أغسطس 2018 - 02:03

مع اقتراب مرور قرن كامل على الاحتضان الغربي لتحركات «الوطنيين» العرب الساعين للتخلّص من السيطرة العثمانية (التركية)، واحتضان باريس لأحد أشهر مؤتمراتهم عام 1913؛ تحوّل الانجذاب العربي التركي الذي أفرزته ثورات الربيع العربي، إلى مصدر لهواجس جديدة للعالم الغربي، جعلته يسحب رداء الرضا الذي ظلّ يلفّ به الدولة العلمانية في تركيا منذ تأسيسها من طرف أتاتورك. والسبب الرئيس، تجاوز تركيا أردوغان لحدود الدائرة المرسومة لها منذ قرن، وشروعها في تصدير نموذجها القائم على ثنائية القومية والانتماء الإسلامي، إلى شعوب المنطقة العربية التي خرجت عام 2011 بحثا عن الخلاص من قيود ما بعد «سايكس بيكو» ومعها أنظمة الاستبداد والقمع. تركيا أردوغان القوي واسطنبول البهية والجيش المسلّح ذاتيا (تقريبا) والدبلوماسية المتمردة على الوصاية الغربية والطامحة إلى دور إقليمي يستند إلى الشرعيتين التاريخية والدينية؛ لم تعد هي تركيا ما قبل الربيع العربي، أي تلك الدولة التي تعانق الغرب مجرّدة من ردائها الثقافي (الديني). والرجل الذي يحكم تركيا منذ أزيد من 15 عاما، بدوره لم يعد ذلك الشاب المتمرّد على شيخه (أربكان)، والساعي إلى الجمع بين العلمانية والتنمية والإشعاع الدولي.  رجب طيّب أردوغان، شق لنفسه طريقا نقلته من مجرّد رئيس حكومة يمشي في ظلّ الدولة العميقة (الجيش والقضاء)، إلى سلطان جديد يحرّر الشعور الديني من جديد داخل نفوس الأتراك، ويغيّر الدساتير ليصبح رئيسا للجمهورية على النمط الأمريكي، دون أن يخلو سجلّه من آلاف الاعتقالات في صفوف الخصوم السياسيين والصحافيين والمعارضين، بدعوى التواطؤ مع الأعداء والانقلابيين. «أخبار اليوم» التي كانت قد خصصت في صيف العام 2011 حلقات مطوّلة لرسم صورة كاملة عن مسار تركيا منذ عهد أتاتورك إلى مرحلة هذا الرجل المعجزة؛ تعود بعد سبع سنوات لتنحت هذا البورتريه، مع ما حملته هذه السنوات من منعرجات وتحولات. تركيا القوية اقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا باتت اليوم درسا إلزاميا لجميع شعوب المنطقة العربية، لا مناص من قراءته، دون إغفال أن صانع هذه التجربة الاستثنائية، أردوغان، إنسان راكم الخطايا كما «الحسنات».

فلنتابع…

مهما كُتب عنه وعن دولته ونجاحاته، فإن الخلاصة تكون دائما بالسؤال نفسه: « ما السر؟ ». هو يقول إن « حزبي أنا وبزعامتي أنا حصلنا على أصوات من جميع المحافظات في تركيا، الوسط والغرب والشرق، في تركيا 81 محافظة ونحن حصلنا على نواب من 80 محافظة، نحن الحزب الوحيد الذي نجح في ذلك، وهذا دليل واضح على أننا متفاهمون مع الشعب، متحدون مع الشعب وأننا نفهم الشعب والشعب يفهمنا »؛ والجميع يردّ « ما السرّ؟ ». هو يفتخر بكونه خلال ثلاث سنوات فقط من الحكم، لم يترك مدرسة تركية دون أن يربطها بشبكة الإنترنيت، وجعل في كل منها قاعة لتعليم المعلوميات. « وخطوة أخرى في التعليم أيضا أننا بدأنا حملة تسمى: هيا يا فتيات إلى المدرسة، لأن نحو سبع مائة ألف فتاة لم تلتحق بالمدارس في تركيا، وتشجيعا لهذه الحملة، نقوم بتقديم مساعدات مالية للفتيات وعائلاتهن، ولكن ندفع للفتيات أكثر من الأولاد ولا ندفع المال للطفل مباشرة، بل نفتح حسابا باسم الأم في أحد البنوك ونودِعُها هناك والأم أكثر عطفا على الطفل، الأب عطوف أيضا ولكن ليس مثل الأم، ولهذا كلفنا الأم بسحب هذا المال من البنك وإنفاقه على تعليم الأطفال ». ورغم ذلك يبقى أردوغان وتركيا محيّرين ومثيرين لذات السؤال: « ما السرّ؟ ».

« إن النجاحات المتتالية التي حققتها وتحققها الحركة الإسلامية التركية ممثلة في حزب العدالة والتنمية، وكذا النسب المرتفعة التي يتحصل عليها في المواعيد الانتخابية المتوالية وفي أجواء ديمقراطية حقيقية، وتصدّره المتكرر للمشهد السياسي والانتخابي التركي بمنحنى بياني تصاعدي ملفت للانتباه ومحيّر لدى البعض »، يقول المفكر الجزائري في شؤون الحركة الإسلامية، جمال زواري أحمد. هذا الأخير قام بمجهود فكري، وحصر أسباب نجاح تركيا أردوغان في ثلاثة عوامل، أولها المال والاقتصاد، وثانيها الإعلام، وثالثها المرونة السياسية.

فقد أدركت الحركة الإسلامية التركية منذ بدايتها أهمية المال والأعمال في نجاح مشروعها، لذلك عملت على تجذير تواجدها ونفوذها الفكري والتربوي والتعليمي في صفوف الجالية التركية في الخارج وربطها بالوطن الأم واستثمار قدراتها المالية بالعملة الصعبة في المساهمة في المشروع التنموي الوطني الطموح والصاعد عند انطلاقته . كما عملت على التواجد القوي والنافذ في الحراك الاقتصادي، بما يشكل لوبيا مؤثرا على المستويين الاقتصادي والسياسي، من خلال تأسيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين المعروفة اختصارا بالموصياد سنة 1990، حتى أصبحت أكبر تجمع مالي واقتصادي ليس في تركيا، فحسب بل في العالم الإسلامي كله.

ويعتبر المفكر الجزائري أن النجاح التنموي الملفت والمتصاعد عند الإمساك بدفة السلطة والدولة، « هو النتيجة المنطقية لتجذر الثقافة المالية والاقتصادية لدى الحركة الإسلامية التركية منذ انطلاقتها وإدراكها المبكر لأهميتها ودورها المحوري في التمكين للمشروع وإحداث التغيير المنشود ». ويذهب إلى أن هذا العامل هو الأهم والرئيسي للخلطة السحرية لتراكم نجاح التجربة التركية، « فإذا ما أرادت الحركات الإسلامية السير على خطاها، فما عليها إلا أن تكون بدايتها من هنا، وأن تتأكد أنه لا يمكن لها أن تنجح سياسيا بشكل لافت ومتكرر إذا ما كانت فاشلة وراسبة ماليا واقتصاديا ».

أما ثاني مكون الخلطة السحرية التركية الذي ساهم في نجاح التجربة، فهو الإعلام. فقد أدركت الحركة الإسلامية التركية مبكرا أهمية هذا المكوّن ودوره وفعاليته في التأثير والتمكين والحماية، فعملت منذ انطلاقتها الأولى على صناعة إعلام خاص بها يكون له صوت محترم ومسموع في الساحة، فأسست الجرائد اليومية والأسبوعية والمجلات الشهرية والدورية، ثم الإذاعات والقنوات التلفزيونية ومراكز الدراسات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. فجريدة يومية مثل: (زمان) مثلا التابعة لحركة فتح الله كولن تعتبر من أوسع الجرائد التركية انتشارا وأكثرها توزيعا، حيث توزع حوالي 800 ألف نسخة يوميا ولها وكالة أنباء مرتبطة بها هي وكالة جيهان.

أما آخر مكونات الخلطة السحرية للتجربة التركية حسب جمال زواري أحمد، فهو المرونة السياسية. فعن طريقها استطاع رفاق أردوغان أن يتجاوزوا إحراجات الإيديولوجيا وتوريطات الشعارات التي لا ينبني عليها عمل، « وانتقلوا من الإسلام العتيق إلى الإسلام الأنيق كما ذكر الشيخ أبو جرة سلطاني، أو من إسلام الشعارات إلى إسلام القيم والأبعاد الحضارية، في صور إنجازات وتجسيد عملي على الأرض وفي الواقع، دون ضرورة رفع اللافتة والشعار، ودون التنازل عن الثوابت والأصول والمبادئ ». وأبرز ما تتجلى فيه تلك المرونة، هو تعاملهم بكثير من الصبر والحكمة والهدوء والأعصاب الباردة مع المؤسسة العسكرية، اللاعب الرئيسي في السياسة التركية منذ تأسيس الجمهورية العلمانية، « ممّا جعلهم يكسبون النقاط بشكل مستمر، على حساب تشددها ومحاولاتها المستميتة لإقصائهم والانقلاب عليهم وحلّ حزبهم ».

إلى كل ذلك، نزيد ما قاله رجب طيب أردوغان جوابا عن سؤال « ما مرجعية كل ذلك؟ »، حيث أكد أن هناك قيما « قادمة من روح حضارتنا وهذه القيم تُشكل قوة وقدرة لنا وبفضل الإلهام الذي استمَدّيناه من هذه القيم استطعنا الوصول إلى الحكم في تركيا في وقت قصير لا يزيد على 16 شهرا ولأن مقولاتنا توافقت مع إرادة الشعب ولقيت الرضا… ونحن قدمنا السياسة الآن باللغة التي يفهمها شعبنا ولذلك أوكَلَنَا الشعب بتولي الحُكم. ومن الآن لن نسمح للفساد وسوء الاستعمال ولن نأكل حق اليتيم، لن نسمح بأكله وعلينا أن نكون حماة للفقراء وأن ننهض بالوطن ».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

ع الجوهري منذ 5 سنوات

مضمون المقال وكأنك تقرأ قصة حصلت منذ زمان والجميل أنها تجري في وقتنا الحالي أعتقد أنها بداية تحول كسوف إلى إشراق

التالي