الصحافـــــة عــدوة نفسهـا...من أجمل إلى أخطر مهنة!

12 نوفمبر 2018 - 09:20

“الصحافة اليوم هي أكثر تسلية بكثير منه إخبارا. الخبر، حاليا، يركز على الترفيه والمتعة، إلى درجة أنه أصبح أكثر أهمية من الإخبار”. هكذا علق السياسي والروائي البيروفي والحائز على جائز نوبل للآداب سنة 2010، ماريو فارغاس يوصا، على الأزمة الأخلاقية والمهنية التي تعيشها وسائل الإعلام بمختلف أطيافها في مختلف بلدان العالم في الوقت الراهن. صحافة اختلط فيها التعليق والرأي والنقل والاستشهاد، من جهة، والمال والسياسة، من جهة أخرى، غير أن يوصا يعتقد أن “مزج الصحافة بين الأخبار والرأي يبدو لي يتماشى مع التقاليد العظيمة للصحافة. وأعتقد أن الجديد هو أن البحث وإعطاء الأهمية للخبر الممتع والمسلي، أدى إلى تتفيه المعلومة كثيرا في أيامنا هذه، وأعطاها طبيعة مختلفة تماما، حيث إن حقيقة ومصداقية ما حدث تكون أقل أهمية من التأثير، هدفه الإثارة بشكل عام، الذي يمكن أن تحدثه”.

من أجمل إلى أخطر مهنة

كل هذا أدى إلى بروز الأخبار الزائفة والتي كانت لها انعكاسات خطيرة على الديمقراطية، حتى في الديمقراطية العريقة بعدما حملت رؤساء شعبويين ومتطرفين إلى الحكم، كما هو الحال مع الجمهوري دونالد ترامب في البيت الأبيض، وحديثا، جايير بولسونارو، الذي فاز بالانتخابات الرئاسية في البرازيل على حساب فيرناندو حداد، المرشح عن حزب العمال البرازيلي، والذي خلف زعيم الحزب، لولا دا سيلفا، المعتقل منذ أبريل الماضي بتهمة امتلاك شقة بشكل غير قانوني، وهو الاتهام الذي لم تقدم أي أدلة موضوعية بخصوصه إلى حدود الساعة.

يرى يوصا أن الأخبار الزائفة لا علاقة لها بالصحافة المهنية المتعارف عليها، بل مجرد “صحافة الكذب التي بدل البحث عن الحقيقة تحرفها وتحورها كليا. ورغم أنها واحدة من خاصيات الخبر في زمننا هذا، أعتقد أنه يجب محاربتها، لأن الأصل في الصحافة هو كشف ما يحدث في الواقع والتعليق عليه”، يبرز يوصا.

وإذا كان الصحافي والكاتب الروائي الراحل الكولومبي والحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1982 غابرييل غارسيا ماركيز، وصف في مقال بصحيفة “إلباييس” سنة 1996 الصحافة بأنها “أفضل مهنة في العالم”، فإن يوصا يؤكد أنها أصبحت اليوم أخطر مهنة في العالم. عالم أصبح فيه الصحافي مطاردا ومتابعا من قبل الرقابة الذاتية والسلطة وأباطرة الاتجار غير المشروع في المخدرات، إذ في الكثير من الأحايين تختلط المخدرات بالسياسة والمال. «(تجار المخدرات) تحولوا إلى قوة تخاف كثيرا من الشكاوى والتحقيقات التي يمكن أن تقوم بها الصحافة حول هذه الصناعة. وهي مصدر جزء كبير من اغتيالات الصحافيين. الاتجار في المخدرات، نظرا إلى ما يمثله والوسائل التي يتوفر عليها، يقف بكل تأكيد وراء جزء مهم من هذه الاغتيالات أو الترهيب المنظم الذي يواجهه الصحافيون الذين يتحدثون عن هذه القضية الخطيرة»، يبرز يوصا.

تكلفة التغريد خارج السرب

حادث قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلده بمدينة اسطنبول بتركيا، والاعتقالات بالجملة للصحافيين في العديد من البلدان، منهم المغرب، كما هو حال الصحافيين توفيق بوعشرين، وحميد المهدوي، يؤكد، كذلك، أن الأنظمة السلطوية والاستبدادية لا تقوى على تحمل الأصوات التي تغرد خارج السرب وترفض التطبيل. كل هذا كان حذر منه يوصا عند شرحه أسباب التركيز على الصحافة الصفراء في روايته “خمس زوايا”، الصادرة سنة 2016، بالقول: “أعتقد أن أصالة ديكتاتورية فوجيموري ومونتيسينوس كانت في استخدامهما الصحافة الصفراء بطريقة منهجية لمهاجمة منتقديها في الصحافة القذرة، واختلاق الفضائح أو تسليط الضوء على الحياة الخاصة والعائلية والجنسية للمنتقدين في الصحافة التي كانت تدعمها الديكتاتورية”.

الصحافة ليست مجرد تحرير وتوليف الكلمات وإجراء اتصالات قبل بعث المقال إلى هيئة التحرير، بل يمكنها أن ترقى بالصحافي إلى مصاف الكبار، والدخول به إلى حقل الآداب، لأنه كما يقول يوصا هي أفضل مهنة تجعلك أقرب إلى الإبداع الفني. “لم يكن بإمكاني كتابة ما كتبته لولا التجارب التي عشتها بفضل الصحافة. جزء مهم من أعمالي الإبداعية كان من المستحيل كتابتها لولا ذكريات الشخصيات والأحداث والبيئات والأماكن التي عرفتها من خلال الصحافة”، يؤكد يوصا.

وكما يحدث في الصحافة المغربية، حيث يسود العبث على المهنية والأخلاق والمصداقية، إلى درجة أن القطاع الصحافي أصبح يضرب به المثل في الخلاف والتراشق والسب والشتم والتشفي بين أبناء الجسم الواحد على عكس قطاعات أخرى يسود فيها روح التضامن، رغم الاختلاف في الأفكار؛ أصبح أكبر عدو للصحافة والصحافيين هو الصحافيون أنفسهم والصحافة نفسها، وليس الحكام المستبدين ولا السياسيين الفاسدين ولا رجال الأعمال الانتهازيين ولا العسكريين الانقلابيين. هذا دفع يوصا إلى دق ناقوس الخطر حول مصير ومصداقية المهنة قائلا: “كنت أعتقد دوما أن الصحافة يمكن أن تكون مهددة من قبل السلطة السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، لكن لا أحد كان يعتقد أن الصحافة يمكن أن تكون مهددة بالتفاهة والعبث، بالصحافة غير المسؤولة، صحافة القيل والقال، وهي الشكل الممثل لهذا الزمان”. الانحراف الذي تعاني منه الصحافة هو “مصدر قلق، لأنه يقود إلى ثقافة الفرجة”، على حد قول يوصا، بدل أن تكون الصحافة رافعة للمجتمع ومصدر تثقيف وتوعية للمواطنين.

وهو الشيء ذاته الذي ذهب إليه الراحل غابرييل غارسيا ماركيز في خطابه أمام المشاركين في النسخة 52 للجمعية العامة لجمعية الصحافة في البلدان الأمريكية سنة 1996 عندما قال إن هناك “تقدما هاما في نصف القرن الحالي (القرن الـ20)، المتمثل في إغناء الأخبار والروبورتاج بالتعليقات وبالرأي، علاوة على إثراء الافتتاحيات بالمعلومات؛ مع ذلك، لا يبدو أن النتائج كانت الأفضل، إذ لم يسبق أن كانت هذه خطيرة للغاية” كما هي عليه اليوم.

عقم قاعات التحرير

هذا الخطر في نظر ماركيز يتمثل في “الهجمات الأخلاقية الخطيرة” من قبل صحافيين همهم الوحيد المال أو السبق الصحفي، بوعي وأحيان بافتخار، على حسب روح المهنة. صحافيون يدافعون عن “قداسة السبق الصحافي بأي ثمن وفوق أي اعتبار”، هؤلاء لا يؤثر فيهم “مبدأ أن أفضل خبر ليس هو ذلك الذي يقدم أولا، بل، في غالب الأحايين، ذلك الذي يقدم بطريقة جيدة”، يشير ماركيز.  قبل أن ينتقل صاحب “مائة عام من العزلة”، والتي اغتنت من التجربة الصحافية لمبدعها، لتأكيد خلاصة لا زالت تحتفظ براهنتيها، وزكتها صحافة زماننا هذا، وهي أن الصحافة والصحافيين أخذوا شكل الحداثة والتكنولوجيا وتخلوا عن روحها، إذ يعتقد أن: المهنة لم تستطع أن تتطور بنفس سرعة الوسائل التي تستعملها، حيث تاه الصحافيون في متاهة تكنولوجيا بدون سيطرة في المستقبل”، ويوضح أكثر مشيرا: “هذا يعني أن المقاولات الصحافية انكبت بعمق في المنافسة الشرسة للتحديث المادي وأجلت تكوين مشاتها وآليات المشاركة التي كانت تقوي الروح المهنية في الماضي”، ليخلص ماركيز إلى أن “قاعات التحرير تحولت إلى مختبرات عقيمة ببحارة منعزلين، حيث يبدو من الأسهل التواصل مع الظواهر الفلكية أكثر منه مع قلوب القراء”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

abdou منذ 5 سنوات

شكرا على هذه المقالة الرائعة

التالي