القمصان الخضراء

05 ديسمبر 2018 - 13:55

مساء الأحد الماضي، وبينما كانت عيون العالم مركزة على ذوي السترات الصفراء بفرنسا، كانت عيون المغاربة مركزة على القمصان الخضراء بملعب الشهداء في كينشاسا، وبعد إعلان الحكم الجنوب إفريقي صافرة النهاية معلنا تتويج الرجاء المغربي بكأس الكونفيدرالية الإفريقية، عمد كثيرون في مواقع التواصل الاجتماعي لاستعارة السترات الصفراء الفرنسية للاحتفاء بالسترات/القمصان الخضراء المغربية.. ففي هذا العالم الذي يزداد تشبيكا تتهاوى الجدران بين الرياضة والسياسة والفلسفة والفن والدين..

إلى حدود ثمانينيات القرن الذي مضى، كان نادي الرجاء الأكثر شعبية خارج الدار البيضاء التي كانت منقسمة بين أخضر درب السلطان وأحمر المدينة القديمة، وكانت شعبيته بسبب ما كان يروج وقتها بين جماهير الكرة أنه مستهدف من جامعة الكرة التي كان يسيطر عليها الجنرالات المنحازون لنادي الجيش الملكي، الذي أسسه الحسن الثاني ذات غضبة على الوداد كما يروج في رواية، أو ليكون له في عاصمة مُلكِه ناد تابع له، موازاة مع تبعية الفتح الرباطي لأخيه الأمير عبدالله كما تقول رواية أخرى، أغلب هذه الروايات كان يصنعها مخيال شعب الكرة الذي كان في أغلبه على خصام مع السياسة وتعقيداتها، فيما قلة من السياسيين والمناضلين من كانوا يجاهرون بعشقهم لتلك الرياضة التي كان ينظر إليها على أساس أنها أفيون الشعوب.. شعب الكرة كان يخترع سردياته المضادة لسردية السلطة في رد فعل لاواع على عنف السلطة واستئثارها بالثروة والسلطة والدين والفن والرياضة.. لم يكن شعب الكرة على الأقل خارج الدار البيضاء يعرف أن الرجاء في تلك الثمانينات تم إلحاقه قسرا بالوافد الجديد آنذاك “الاتحاد الدستوري”، بعدما كان مرتبطا بنقابة الاتحاد المغربي للشغل، وأن السلطة لم تكن لتسمح لناد بكل تلك الجماهيرية أن يكون مستقلا عن تحكمها. ورغم أن المكتب المسير للرجاء كان يضم المعطي بوعبيد والسملالي والمسيوي وهم من الوجوه البارزة للاتحاد الدستوري، فقد ظل الرجاء في عرف جماهير الكرة نادي الشعب المظلوم من الجنرالات الذين يعطفون على الجيش الملكي، والمظلوم كذلك من طرف “الدوماليين”، الذين كانوا يمولون الوداد البيضاوي، وهكذا تم تقسيم الرقعة الكروية بين: فريق الملك (الجيش الملكي) وفريق البورجوازية (الوداد) وفريق الشعب (الرجاء).. طبعا، لم تكن هذه هي السرديات الشعبية الوحيدة في عالم المستديرة، ففي شمال البلاد كان هناك شبه إجماع على وجود قرار من أعلى سلطة في البلاد بمنع أنديتها من الصعود إلى القسم الأول، بسبب غضب الحسن الثاني ممن سمّاهم الأوباش، وحين “اخترق” اتحاد طنجة ذلك المنع، قيل إن الأمر يعود إلى القوة المالية لرجل كان اسمه عبدالسلام الأربعين كانت تعده السلطة لكي ينجح في الانتخابات، وبالفعل نجح في الانتخابات باللون الوردي لحزب الاستقلال، قبل أن يعيد الكرة في التسعينيات مرشحا للائحة المشتركة بين الاستقلال والاتحاد الاشتراكي في توقيت ما قبل حكومة التناوب والتراضي/التغاضي.. أما منافسه المغرب التطواني فلم يصعد إلى القسم الأول إلا مع التمسماني، وكان التطوانيون مقتنعين أنه لولا صداقة التمسماني مع الحاج المديوري الحارس الشخصي للملك، لم يكن “الموغريب” ليلعب في القسم الأول.. لكن إذا كان مصير الأربعين هو الابتعاد عن السياسة والرياضة معا، حين تمت تصفية إرث البصري، فإن مصير التمسماني كان مذكرات بحث دولية بتهمة الاتجار العابر للقارات في المخدرات.

كتب الروائي الأوروغوياني، إدواردو غاليانو، واحدا من أمتع الكتب حول كرة القدم وسمه بـ”كرة القدم بين الظل والشمس”، ومن خلال حكايات وأبطال يسرد إدواردو تاريخا للبؤس والمجد، للحب والتعصب، للإيمان والكفر، لم تكن شخصيات مثل مارادونا وبيليه وبلاتيني مجرد لاعبين يداعبون كرة منفوخة بالهواء، بل كانوا صانعي فرجة فنية، وقادة حروب حقيقية، وأنبياء دين هو الأكثر انتشارا، لكن غاليانو يتأسف لمفارقة تحول اللعبة من القدم نحو العين، ويقصد أنها تحولت من رياضة إلى فرجة، فعدد الجمهور أكثر من عدد الممارسين، وينتقد تحولها من قيمة رياضية (التنافس والروح الرياضية والاجتهاد)، إلى قيمة تجارية (المضاربات، الإعلانات، حقوق البث التلفزيوني..)..

لم ير غاليانو أي انتقاص من قيمته الأدبية الكونية وهو يتحدث عن كرة القدم، كما لم يجد إدوارد سعيد صاحب “الثقافة والإمبريالية” سببا يمنعه من كتابة نص عن الراقصة تحية كاريوكا، وهو الأستاذ الجامعي اللامع آنذاك في الدراسات الثقافية بجامعة كولومبيا الأمريكية، ولغارسيا ماركيز نفسه نص عن المغنية الشهيرة “شاكيرا”..

في محيطنا “الثقافي”، تجاوزا، قلة قليلة من كتبت عن الكرة.. مع العلم أن رهانات سياسية واقتصادية وثقافية وقيمية كبرى تخترق هذه اللعبة، لذلك تفاجأ السياسيون و”المثقفون” من نشيد ألترا الرجاء “فبلادي ظلموني”، فلو كانوا متتبعين لما يقع في المدرجات، لما استغربوا كل هذا الاستغراب وكأنهم خرجوا للتو من كهف “أفسوس” زمن القيصر “داكيوس”..

اليوم، لم يعد تقسيم الأندية بالمغرب خاضعا لثلاثية: نادي الملك ونادي البورجوازية ونادي الشعب.. فقد تم تحرير المدرجات بعدما عجز السياسيون عن تحرير القضاء والإعلام والمدرسة والدين، لكن المكاتب المسيرة توزعت في غالبيتها بين أحزاب السلطة: الأحرار (الرجاء، الحسنية..) والبام (الرجاء، المولودية، يوسفية برشيد..).

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي