إهدار العدالة الانتقالية أو سنوات «قلم الرصاص»!

17 ديسمبر 2018 - 14:24

أصبح إهدار المكتسبات – على قلتها – في بلادنا برعونة بالغة، “رياضة وطنية”، أحد تلك المكتسبات كان يتمثل في خلاصات وأعمال هيئة الإنصاف والمصالحة التي كان الهدف من إنشائها، طي صفحة سنوات الرصاص وخلق مناخ جديد من الثقة بين الدولة والمجتمع. صحيح أن الهيئة خضعت “للمغربة” تلك كانت من بين خصوصياتها، فلم تنتج عن الحقائق التي توفرت لها على لسان الضحايا، وما استطاعت أن تصل إليه من خلال الوثائق التي تحصلت عليها، محاسبة من كانوا سببا مباشرا في الأحداث الأليمة التي شهدها المغرب منذ السنوات الأولى للاستقلال ووصولا إلى تاريخ إنهاء الهيئة المستقلة لأشغالها سنة 1999.

في الواقع المغرب في ذلك لم يكن يبتعد عن تجربة رائدة في العالم على مستوى التحول الديمقراطي، وهي التجربة الإسبانية، إذ كان من مقتضيات عقد منوكلوا “le pacte de moncloa”، الذي وقعت جميع الأطراف الإسبانية سنة 1977، بندا أساسيا يتعلق بتعهد الجميع بنبذ أي ممارسة انتقامية، وكان الأمر يتعلق طبعا بعدم الانتقام من رجال فرانكو. في المغرب، أطال الله في عمرنا لنكون شهودا على سعي البعض إلى الانتقام من الضحايا، فقرار النيابة العامة بفاس إحالة عبدالعلي حامي الدين على التحقيق في جريمة قتل الشهيد أيت الجيد بنعيسى التي جرت سنة 1993، وبعدما صدر في حقه حكم بالسجن، وبعدما صار الحكم نهائيا حائزا قوة الشيء المقضي به، وبعدما اعتبرت هيئة الإنصاف والمصالحة اعتقاله يدخل في إطار الاعتقال التعسفي الذي يدخل في اختصاصاتها البحث في وقائعه وإصدار مقررات بشأنه، وبعدما أصدرت الهيئة مقررا بالتعويض للمعني بالأمر، يأتي اليوم إحالته على غرفة الجنايات، ليجعل من ذلك كله مجرد عدم.

الموضوع بكامله لا علاقة له بالقانون، ومن يحاول أن يجر الموضوع إلى النقاش القانوني لا يفعل سوى لي عنق نصوص القانون الجنائي، بشكل لا يستقيم مع المرجعيات الدولية التي لها في كل الأحوال الأسبقية على التشريعات الوطنية في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان وفي صدارة هذه الحقوق عدم محاكمة الشخص نفسه على الوقائع نفسها مرتين. النقاش الحقيقي، هو نقاش سياسي في العمق، وهنا بالضبط تتضح مخاطر مثل هذا الانزلاق، حيث تمثل إحالة حامي الدين، إهدارا فاضحا للعدالة الانتقالية التي يريد البعض أن يؤسس من خلالها “لعدالة” انتقامية. خطورة هذه الخطوة تتجاوز شخص حامي الدين وحزب العدالة والتنمية، إنها أحد الأسس التي قام عليها عهد الملك محمد السادس، وإشارة سلبية -إذا كان الأمر يحتاج إلى إشارات- للخارج، مفادها أن المغرب يشهد تراجعا خطيرا في دولة الحق والقانون، وهذا الأمر يؤثر بلا شك على بلادنا، خاصة في الجانب الاقتصادي الذي يستهدف الاستثمارات الخارجية، فكيف يمكن للراسمال -الجبان بطبعه- أن يطمئن على استثماراته ومصالحه إذا كانت أحكام القضاء والتسويات التاريخية تتعرض لمثل هذا السلخ غير الرحيم.

حزب العدالة والتنمية بادر للتضامن وتشكيل لجنة، وهذا حق حامي الدين على حزبه وعلى كل من يؤمن بدولة الحق والقانون، وكل من آمن ونظر إلى العدالة الانتقالية ببلادنا، لكن حزب العدالة والتنمية عليه أن يعرف بأنه “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، وأن التعاطي الحالي مع المكتسبات السابقة وكأنها كُتبت بقلم الرصاص، أمر يستوجب وقفة تاريخية صادقة وشجاعة، ليس من أجل الأفراد والجماعات السياسية، بل من أجل بلادنا وما حققته بتضحيات كبيرة وحكمة، ما أحوجنا إليها اليوم.

أما الذين يعتقدون أنهم بهذا الموضوع يصفون حساباتهم السياسية والإيديولوجية مع الإسلاميين، فإنهم لايقومون سوى بقتل رمزي هذه المرة لأيت الجيد بنعيسى، وكأنهم يقولون لنا كما قِيل قديما: “الموتى وحدهم يشهدون نهاية الحرب”، بينما تقتضي الحكمة أن يمتلك الأحياء شجاعة إنهائها، خاصة عندما تكون فقط إهدارا لآمال شعب ووطن في الحاضر والمستقبل.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي