سكيزوفرينيا مجتمع و.. دولة

07 يناير 2019 - 13:14

لن أكشف جديدا إذا قلت إننا، نحن المغاربة، نبدي من أعراض السكيزوفرينيا وتعدد الشخصيات أكثر مما تبديه جل شعوب العالم. فنحن المجتمع الذي يتصدر التصنيفات العالمية في الشيء وضده، نحن واحد من أكثر شعوب العالم تدينا ومحافظة، وفي الوقت نفسه نحن ضمن أبطال العالم في استهلاك المحرمات الدينية، من خمور ومواقع إباحية. نحن واحد من أكثر الشعوب ارتباطا بالوطن وحرصا عليه واستعدادا للدفاع عنه، وفي الوقت نفسه لا نجد أي مبالغة في القول إننا، في حال فتحت أمامنا الحدود، سنغادر جميعا و«الأخير يطفي الضو». نحن واحد من أكثر الشعوب انفتاحا وتسامحا واستعدادا للتعايش، وفي الوقت نفسه نحن ضمن أبطال العالم من حيث تصدير المقاتلين الجهاديين وتفكيك الخلايا الإرهابية، ومن بين ظهرانينا خرجت مشاهد ذبح سائحتي إمليل المريعة…

كل هذه السكيزوفرينيا تهون عندما ننتقل إلى المستوى العلوي، مستوى الدولة والمؤسسات والقوانين. هذا أصعب ما يمكن أن يصيب مجتمعا ما، لأن الدول والمؤسسات تقام لتوحيد المعايير والقواعد والاختيارات. مؤسساتنا قادرة على إنتاج الشيء ونقيضه في ظل النظام السياسي نفسه والقوانين نفسها، بل وفي الوقت نفسه.

لننظر كيف أن المغرب يتميّز عن محيطه الإقليمي، منذ انطلاق المدّ الذي يسميه البعض بالثورات المضادة، بإبقائه الإسلاميين، الذين تصدروا المشهد الانتخابي عقب الربيع العربي، في الموقع الحكومي، بل وفي صدارته. لكن، في الوقت الذي يفترض أن يؤشر ذلك على احترام للاختيار الديمقراطي وحكم الصناديق، نجد أن كل ما يحصل من تدبير سياسي، باستثناء الإبقاء على حزب العدالة والتنمية في رئاسة الحكومة، يرمي إلى التنكيل بهذا الحزب وشق صفوفه وإنهاكه، وضرب مصداقيته، واغتيال رموزه معنويا وأخلاقيا.

لا داعي إلى أن نغوص كثيرا في المعطيات الماكرو-سياسية، لنفتح فقط العدد الأخير من الجريدة الرسمية، ولنقرأ القرارات التي أصدرتها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. ماذا نجد؟ تصوروا أن مؤسسة دستورية مغربية تستنفر مصالحها وأجهزة استشعارها، وتلتقط برامج إذاعية وتلفزيونية في محطات مختلفة، وتحللها وتلتئم هيئاتها المقررة لتصدر بشأنها قرارات مفصلة ومحكمة الصياغة، لتقول ماذا؟ لتوجه إنذارات صارمة إلى وسائل الإعلام التي أقدمت على ذكر اسم شخص يظهر في شريط فيديو رُوج في شبكات التواصل الاجتماعي، وهو يهم باغتصاب فتاة، بل إن الهاكا «جبّدت» آذان قناة تلفزيونية فقط لأن ضيفة أشارت إلى هذا الشخص مستعملة كلمة «الجاني». أراهن، دون كثير مجازفة، أننا لن نجد فرقا بين هذه القرارات وبين ما تفعله هيئات مماثلة في السويد أو ألمانيا أو غيرهما من جنات الحرية وحقوق الإنسان.

مقابل ذلك، هذه المؤسسة نفسها، ومعها القضاء المستقل والنيابة العامة، المتوثبة لإصدار منشور مطول يتوعد من يقدم على المساس بصورة مواطن دون وجه حق، تقف متفرجة على مشاهد يومية لسحل عباد لله، وتمريغ كرامتهم في الوحل، وعلى عينيك يا بن عدي. «الهاكا»، التي استأسدت دفاعا عن حقوق متهم وصف بالجاني قبل أن ينظر القضاء في قضيته، لم تجد أي داع للدفاع عن حق مواطن اسمه توفيق بوعشرين، عرضت قنوات الإعلام العمومي اسمه وصورته ونسبه ومؤسسته الإعلامية في بث حرفي لبيانات أصدرتها سلطة الاتهام، النيابة العامة، كما لو كان الأمر حقيقة قضائية باتة، صدر الحكم بنشرها.

المغرب الذي يقيم للفن منصات عظيمة، ويحفه بالدعم المالي السخي، ويجزل العطاء للمبدعين في المسرح والسينما والغناء، هو نفسه الذي يمنع لوحة فنية من العرض، وكتابا فكريا من النشر، وفنانا من الغناء، بل ويجر فكاهيا إلى التحقيق بسبب تدوينة فيسبوكية. المغرب الذي يجلس إلى انفصالييه المحتفظين بالسلاح والآوين إلى أرض الخصوم، ويمد إليهم يد المصالحة والتعايش تحت سقف الحكم الذاتي، ويراقب انفصاليي الداخل بدم بارد وهم ينتقلون إلى معسكرات بومرداس ويعودون منها، هو نفسه الذي يضيق خاطره تجاه عاطلي جرادة والحسيمة، وينهي حواره معهم في قاعات المحاكم الباردة.

في المغرب، وبقدر ما يسعدك قرار هادئ ومتعقل مثل ذلك الذي صدر قبل يومين في حق الشاب الفبرايري، الذي نشر تدوينة تتحدث عن قطع الرؤوس، والقاضي بمتابعته بتهمة التحريض على جناية، بعيدا عن أي انزلاق نحو استعمال قانون مكافحة الإرهاب، لأن الأمر يتعلق، في نهاية المطاف، بتدوينة طائشة لا أحد يتمنى أن تُستخدم للإجهاز على مستقبل شاب في مقتبل العمر؛ فإنك تجد نفسك مفجوعا بقراءة تفاصيل المتابعة التي قادت شابا وديعا مثل مرتضى اعمرشا إلى السجن كأي إرهابي.

إن «الورطة» الكبرى التي يبدو أننا نعجز عن الخروج منها، هي أن الخيار «التقليداني»، الذي تقول أطروحة المستشار الملكي والمشرف على تحضير دستور 2011، محمد معتصم، إنه انتصر منذ الاستقلال، وحكم، بالتالي، البناء الدستوري والمؤسساتي للدولة، بات يواجه قوة سياسية تقاسمه هذه التقليدانية. نحن اليوم أمام دولة حائرة ومترددة بين الدفاع عن «حقها» في احتكار تقليدانية تستقي منها شرعيات تاريخية ودينية متينة، لكنها تسمح بتجاوز الديمقراطية، وبين مشروع حداثي جرى التراجع عنه، أو تجميده، لأنه يؤسس تحولات اجتماعية وسياسية ومؤسساتية لا تستوعبها إلا ملكية برلمانية على النمط الأوروبي.

إذا كان الانفصام الاجتماعي يجد تفسيراته في عوامل ثقافية وتاريخية معقدة، فإن الانفصام المؤسساتي له تفسير واحد، هو التردد بين خيارين؛ واحد ديمقراطي لا يستسيغه عقل السلطة حتى الآن، وآخر غير ديمقراطي لا يسمح منطق التاريخ ببقائه، فبالأحرى إحياءه.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

محمد ناجم منذ 5 سنوات

ذكرني مقالك الرائع هذا بمقال شبيه له قرأته اواخر الثمانينات تحت عنوان :مجتمعان تحت سقف واحد .ولا أخفيك سيدي أن معانيه لا تزال حية في ذهني كلما ازدادت وتناسلت التناقضات في وطني ما بين المعنى واللامعنى،تحياتي

التالي