«حرب» الذاكرة

14 يناير 2019 - 14:02

كما للأفراد ذاكرة، تمكنهم من استرجاع المعلومات المخزنة، للتصرف أمام وضعيات مختلفة في حياتهم اليومية، فإن للشعوب، أيضا، ذاكرة جمعية، تمكنها من فهم وإدراك حاضرها، والتصرف السليم إزاء وضعيات تهم مستقبلها.

وتكاد تكون آليات وميكانيزمات اشتغال الذاكرة الجمعية عند الشعوب، هي نفسها عند الأفراد، وبالتالي، فإن آليات التأثير على هذه الذاكرة وإبطال مفعولها يتحقق عن طريق النسيان، وتحقق النسيان له مسارات تختلف بين التشويش على المعلومات التي تستقبلها الذاكرة، أو تغيير الترميز الذي تتم به عملية تخزينها، أو قد تصل حد تدمير الذاكرة.

ولذلك، أول ما تستهدفه القوى الاستعمارية، هو ذاكرة الشعوب، سواء من خلال التشويش وتشويه تاريخها ومصدر معرفتها وقيمها، أو طمس معالم الآثار، وكذا الرموز المحيلة على نقط قوتها.

في الصراع السياسي داخل الدولة نفسها، قد تلجأ بعض أطراف الصراع إلى الأسلوب ذاته، في حالة عجزها عن ضمان ولاء الشعب، بالتصويت لصالحها أو لصالح من يمثلها ويحقق أهدافها، وعجزها عن إقناعه باختياراتها السياسية والاقتصادية.

في المغرب يبدو أن استهداف ذاكرة المغاربة، يجري على قدم وساق، منذ اتضح لأحد أطراف الصراع السياسي القائم في البلاد، أن الذاكرة الجمعية، خزنت الكثير من المعلومات والمعطيات، بشفرات ورموز وضعها طرف آخر، يتمتع بقدر من الاستقلالية، واستطاع التفوق في تنظيم عملية الاسترجاع، بل تحكم فيها بقدَر، على الرغم من مختلف عمليات التشويش.

هذا التفوق ظهر بشكل جلي خلال انتخابات سنة 2015، وتعزز في انتخابات سنة 2016، فما كان إلا أن تقرر إعمال مختلف آليات استهداف الذاكرة المعروفة، في محاولة لمحو كافة المعلومات، في أفق استبدالها بمعلومات أخرى بترميز جديد، يؤمّن عدم خروج عملية الاسترجاع مستقبلا، عن النتيجة المطلوبة والمرجوة.

وليس اكتشافا، أن حزب العدالة والتنمية وأمينه العام السابق ورئيس حكومة الفترة الماضية، الأستاذ عبدالإله بنكيران، كان أحد أقوى الرموز التي أثرت في الذاكرة الجمعية للمغاربة، إلى جانب أسماء أخرى لها رمزيتها أيضا، منها سياسيون وصحافيون ذوو مصداقية وتأثير كبير في صناعة الرأي العام، لذلك جرت محاولات وضع المرحلة التي أطرتها هاته الرموز، بين قوسين بهدف تجاوزها، من خلال التشكيك المستمر في خطابها وولائها، وحتى أخلاقها، ونسبة كل «الشرور إليها» وتسويق صورة سوداء عن المرحلة بأكملها، باستعمال أساليب الدعاية الإعلامية، فتابع المغاربة كيف جرى استدعاء حزب الاتحاد الاشتراكي من الأرشيف، وقد أصابه ما أصابه من أمراض وتشظي وبُعد عن المواطنين، وكذا استدعاء المجاهد عبدالرحمان اليوسفي إلى الواجهة السياسية والإعلامية من جديد، ومحاولة توظيف بعض مبادراته، في سياق مقارنة بين حكومة التناوب وحكومة الأستاذ عبدالإله بنكيران، حتى لا تظل هذه الأخيرة حالة مرجعية.

وفي سياق التأثير على الذاكرة الجمعية، تابع المغاربة، أيضا، كيف يواصل حزب عزيز أخنوش، تقديم نفسه منقذا للمغرب من «المخربين» الذين شارك معهم في الحكومة السابقة لثلاث سنوات، ويواصل مجالستهم في الحكومة الحالية، وكيف نظم هذا الحزب ما يشبه حملة انتخابية بأثر رجعي، مباشرة بعد تنصيب حكومة الدكتور سعد الدين العثماني، كان مضمونها هو محاولة السطو على انجازات حكومة الأستاذ بنكيران، من خلال نسبتها إلى وزراء التجمع الوطني للأحرار.

في السياق ذاته، تعرضت ذاكرة المغاربة بعد الانتخابات الأخيرة، لسيل من الأحداث المتتالية والمتسارعة، ومنها أحداث خطيرة، بهدف شل قدرتها على استيعاب ما يرد عليها، وإفقادها التمييز بين المطلوب والضروري استرجاعه من المعلومات المخزنة سابقا، كل هذا من أجل إعدادها لعملية استرجاع متحكم فيها خلال الانتخابات المقبلة، وبالطبع ضمان تقبلها لكل ما يُفرض من اختيارات وقرارات وقوانين، دون ردود فعل غير مرغوبة.

إن الوعي بـ»حرب» الذاكرة الجارية، يبقى الخيار الوحيد لإيقاف محاولات نسفها وتخريبها، ولن يكون لهذا الوعي أثر إلا عن طريق إنعاش كافة المعلومات والمعطيات المخزنة سلفا، والتي تحولت إلى خطاب سياسي يملكه عموم المغاربة، وأدى استرجاعهم له في وقت الحاجة، إلى صناعة انتصار سياسي غير مسبوق للشعب، على وسائل التشويش والدعاية المضادة، التي انخرطت فيها أطراف كثيرة تتمتع بكثير من النفوذ والمال، لكنها لا تفهم في قول أبي القاسم الشابي: «إذا الشعب يوما أراد الحياة … فلا بد أن يستجيب القدر».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي