مزاج ثوري

05 فبراير 2019 - 13:45

لأول مرة أحس أنني معنيٌّ عن كثب باحتجاجات «السترات الصفراء». لم أخرج للتظاهر، لكن القهوة التي تعودت أن أشرب كل سبت في براسري «Chez Pierre»، اختلطت بغاز «لاكريموجين». المحتجون احتلوا ساحة «ريبيبليك» ورددوا شعاراتهم الأسبوعية، قبل أن يبدأ الكر والفر مع قوات الأمن، ويمتلئ الهواء بالدخان والروائح الخانقة وكثير من الشتائم. في الوقت الذي كان بعض المتظاهرين «يتشعبطون» في عنق «ماريان»، حارسة الجمهورية، ويعلقون على كتفها رايات ولافتات، كان آخرون يكسرون طوبات ضخمة من حجر الرصيف كي يقصفوا أفراد الشرطة، أما نحن الذين كنا نتمتع بالدفء في «تيراس» المقهى، فقد وجدنا أنفسنا رهائن في معركة حامية الوطيس، تنقل أطوارها قناة BFM، بكثير من الحماس، كما تنقل «بين سبور» مباريات «الشامبيانز ليگ». الاحتجاجات بدأت بعيدة في «الشانزيليزي» و»الشاندومارس» و»الكونكورد»، واستقرت في «باستيي» و»ريبيبليك»، قرب الحي الذي أسكن فيه. يا للحظ السعيد!

كثير من الفرنسيين لم يعودوا يخفون تذمرهم من «السترات الصفراء»، وتظاهراتهم التي تنتهي بتدمير عدد من الممتلكات، لكن الغاضبين عازمون على مواصلة المعركة «حتى النصر»، وحتى تحقيق كل «المطالب». أي مطالب؟ ألم تكف المليارات العشرة التي لا يعرف أحد من أين ستأتي بها الحكومة؟ ألم يكف إلغاء «ضريبة الكربون»؟ ماذا يريدون أكثر؟ ألم يعجبهم «النقاش الكبير» الذي يقضي فيه إيمانويل ماكرون ووزراؤه ساعات طويلة وهم يتجادلون ويتحاورون مع المواطنين وممثليهم قي القرى والمدن النائية «لتحويل الغضب إلى حلول»؟

كل هذا لم ينفع لحد الآن. إنها ضريبة الديمقراطية. عندما تُصاب المؤسسات بالعطب، يأخذ الشارع الكلمة، وعندما يتكلم الشارع لا يمكن أن تسكته بسهولة، مهما قدمت من تنازلات. كلما أعطيته برتقالة يطلب اثنين، بل يطمع في الصندوق. الدول القمعية تحل المشكلة بسهولة، بدل البرتقال تعطي «العصير»: تشتت الاحتجاجات بالقوة، وتوزع المتظاهرين على السجون، وتخرس الشارع عن بكرة أبيه!

رغم بعض الاعتقالات الخفيفة، والإصابات العابرة، لم يصدر القضاء الفرنسي أحكاما ثقيلة في حق المتظاهرين، لا أحد منهم «ضربوه» بعشرين عاما بتهمة «المس بالسلامة الداخلية للدولة»، لذلك يستعد أصحاب «السترات الصفراء» لاحتجاجات السبت الثالث عشر على التوالي، بعدما تحولوا إلى جزء من المشهد الفرنسي، مثل برج إيفل وقوس النصر وساكريكور وموسم التخفيضات، أصبحوا مسلسلا «مشوقا» ينتظره ملايين المشاهدين كل سبت، كي يتفرجوا على مدينة الأنوار وهي تحترق، وعلى أفخم المحلات التجارية وهي تتعرض للنهب، وأجمل جادة في العالم وهي تتحول إلى ساحة حرب، بغير قليل من التشفي أحيانا.

واضح أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لم تنفع في إقناعهم بخلع ستراتهم الصفراء، رغم انقسامهم إلى كثير من الفصائل، بعضهم أعلن عن تشكيل لائحة ستشارك في الانتخابات الأوروبية المقبلة، وبعضهم مازال يرفع مطالب راديكالية لا يقل سقفها عن رحيل إيمانويل ماكرون وحل الحكومة والبرلمان، فيما آخرون يطالبون باستفتاء شعبي يوسع مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار، وآخرون يركزون على مطالب اجتماعية لفائدة الطبقة الوسطى، تتعلق بصون كرامتهم وتحسين قدرتهم الشرائية.

ولعل الملاحظة الأساسية في هذه الاحتجاجات التي زعزعت عرش ماكرون، أن أصحابها ينتمون إلى أسفل الطبقة المتوسطة. أصحاب «السترات الصفراء» هم أولئك الفرنسيون الأقحاح (de souche)، الذين لا يتمكنون من إكمال الشهر، رغم أنهم يشتغلون مثل بغال طوال الأسبوع. في فرنسا، أيضا، الشهر طويل كالصراط المستقيم، ومن الصعب على كثير من المواطنين إتمامه دون قروض من البنك والعائلة والأصدقاء. بخلاف فئة كبيرة من المهاجرين ومن سكان الضواحي والطبقات المعدمة، هؤلاء المحتجون لا يريدون إعانات من الدولة، بل يودون العيش من عرق جبينهم في احترام تام لكرامتهم. لا يفهمون كيف يمكن للإنسان أن يشتغل خمسة أيام في الأسبوع، وأن يتفانى في عمله، وفي النهاية لا يستطيع ملء ثلاجته بالمؤونة الكافية!

إذا كانت الطبقات المسحوقة تعيش على مساعدات الدولة، والطبقات الميسورة تستفيد من ثروتها المعفاة من الضريبة، فإن الطبقة المتوسطة تعيش على أعصابها، بعدما أثقلت الحكومة كاهلها بالضرائب. لا الرواتب تكفي للوصول بكرامة إلى آخر الشهر، ولا هي معدمة تماما كي تحصل على مساعدات اجتماعية!

الفقراء في فرنسا يعرفون كيف يستفيدون من الوضع، يتوالدون بكثرة ويحلبون الدولة بكل الطرق: السكن الاجتماعي، التعويضات عن الأبناء، الإعفاء من الضرائب، المساعدات الاجتماعية… لذلك تجد كثيرا من المهاجرين يفضلون البقاء أسفل السلم الاجتماعي، كي يعيشوا على الإعانات بدل العمل مقابل أجر يقتسمونه مع مصلحة الضرائب. أما الذين يعتبرون العمل قيمة أساسية في الحياة ويفضلون الشغل على الإعانات، فإن كثيرا منهم لا يتمكن من العيش بأجره الشهري، لذلك خرجوا يحتجون على إيمانويل ماكرون، الرئيس المتعالي، القادم من عالم المال والأعمال، الذي لا يشعر بمعاناتهم وكان ينظر إليهم بعنجهية وازدراء، قبل أن يضطر إلى الاعتذار عن أسلوبه في التعامل والحديث. الحريق كان كبيرا. توقفت عجلة الإصلاحات واضطر الرئيس إلى إحداث انعطافة في سياسته وتعهد بصرف عشرة مليارات أورو لتنفيذ مطالب المحتجين، كما اضطر إلى فتح نقاش وطني يجعله يقضي ساعات طويلة مع الفرنسيين للإنصات إليهم والتداول معهم حول سبل الخروج من الأزمة. الأزمة التي استقرت وأصبحت جزءا من المشهد. لكنه لن يستقيل ولن يغير الحكومة أو يحل البرلمان، سيكتفي على الأرجح باستفتاء شعبي، يجري بالتزامن مع الانتخابات الأوروبية، لعله يغلق هذا القوس المزعج.

فرنسا بلد عصي على الإصلاح، لأن مزاج الفرنسيين ثوري. يكرهون الأثرياء، حتى عندما يكونون مواطنين صالحين يدفعون الضرائب ويساهمون في اقتصاد البلاد. أخصب السنوات الفكرية في حياة كارل ماركس قضاها في بلد الأنوار، وفلسفته مستلهمة من «كومونة باريس»، الانتفاضة التي كانت بمثابة «بروفة» لثورة البلشفيين في روسيا. «موطور» الدولة الفرنسية مازال شيوعيا، آلة ضخمة لا تتوقف عن إعادة توزيع الثروة، تأخذ من الغني لتعطي إلى الفقير، وكلما حاول أحد تشحيم الآلة أو إصلاحها يطحن الطبقة المتوسطة، لذلك خرج أصحاب «السترات الصفراء» كي يقدموا للعالم تذكيرا تاريخيا بأن بلدهم هو مهد الثورة التي شنقت آخر ملك بأمعاء آخر قسيس!

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي