طفرة المناضلين..

21 فبراير 2019 - 17:10

الفرقة والخوف والطمع ثلاثة أسلحة فتّاكة ظلت تعتمل في أحشاء السياسة المغربية في لحظات كثيرة، مثلما ظلت الشجاعة جدار الصد المنيع الذي يُبدع أجمل ما فيها من مواقف ولحظات نادرة. في مذكرات المناضل السياسي الكبير وأحد قادة جيش التحرير، محمد بنسعيد آيت إيدر، تلاحظ كيف تعتمل هذه النزعات النفسية الإنسانية وترتطم بعضها ببعض منتجة تقلبات ومنعطفات كبرى في التطور السياسي للدولة وفي مواقف المناضلين الكبار. مثلاً، حين تنتصر «الشجاعة» تنتج إغلاق معتقلات سريّة ومصالحة حقوقية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وحين ينتصر «الخوف» ينتج مزيدا من الاعتقالات وخوفا أكبر من الخوف الأول، وحين يسود «الطمع» ينتج الفرقة، وحين تنتصر «الفرقة» تنتج الاستبداد والرأي الواحد.

قراءة مذكرات الزعيم بنسعيد تضعك أمام هذه النوازع النفسية والسياسية، وهي تعترك وتتطاحن داخل الإنسان وداخل الأحزاب والنظام مخلّفة تاريخا سيصبح تاريخ بلادك. صحيح أنها «قراءة» من زاوية نظر بنسعيد، وتبقى قابلة للمواجهة بآراء أخرى لمجايليه من ساسة وقادة جيش التحرير، لكنك تشعر، بشكل ما، أنها قراءة صادقة ونقية و»شجاعة». وهذا الشعور وجدانٌ مزدوجٌ بالبرهان. فالتفسيرات المقدمة لعدة أحداث تنسجم مع البرهان والمنطق السليم في تحليل الأحداث. كما أن الوجدان يزدوج فيها بالبرهان أيضا! فالقرارات التي اتخذها هذا المقاوم حماية لمشاعر الكرامة وعزة النفس الحية في داخله، سجلّها التاريخ، وشهد له بها آخرون..

قرأت هذه المذكرات وزاد تقديري لهذا الرجل. وفكرت أن مثل هذه المذكرات لا بد أن تحضر في التاريخ المُدرّس. وقائع التاريخ تحتاج أن تُقدم من زوايا نظر متعددة، لعل الناظر يجد فيها بعض العزاء من كل تلك الأسئلة المحيرة في تاريخنا، ولعل في صدارتها سؤال الإخفاق الديمقراطي. لماذا أخفقنا؟ بنسعيد يقدم إضاءات واضحة في هذه الباب بلغة مباشرة ودون أية زخرفات مخادعة. سأعطي إشارة صغيرة هنا مجترحة من المذكرات الجميلة للزعيم وسأفتح سؤالا في ذهن القارئ عن سياقها لعله يعود للكتاب، يقول آيت إيدر «ولقد كان من نتائج ذلك (؟)، أن تمكنت فئات من خارج الصف الوطني الذي قاد معركة النضال من أجل الاستقلال من أن تصبح، بقدرة قادر، بعد فترة من ذلك الاستقلال، العمود الفقري لبناء مؤسسات وأجهزة النظام الجديد».

وأنا أقرأ هذه المذكرات، أيضا، وجدتني عاجزا أمام تفكيري الذي شرد في إجراء مقارنات بالجملة. مقارنات لا تحترم شروط القياس العلمي بالضرورة، بقدر ما تتأمل تاريخا يبدو مدورا.

وجدتني أقيس مثلا الشعار الذي رفعه رفاق بنسعيد حينها «من أجل الديمقراطية من داخل المؤسسات» على شعار «الإصلاح من الداخل» لدى إخوان بنكيران، وتسامح النظام مع خطابات عمر بلافريج النارية بقبة البرلمان حاليا، مع تسامحه مع آيت إيدر ماضيا، ومبادرات المؤرخ والحقوقي المعطي منجيب لتقريب اليسار واليمين مع مبادرات الزعيم بنسعيد لتوحيد الصف الديمقراطي.

وبشكل عكسي، أيضا، دخلت في مقارنات قدرات المخزن قديما وحديثا، وخاصة قدرته التاريخية على العجن والتدجين، بما يُسرّع طفرة المناضلين. من مظاهر هذه الطفرة ذلك «التيار الجديد» الذي اخترق «عددا كبيرا من الأطر في الأحزاب الوطنية والتقدمية التي كانت تستعجل المكاسب (…) وتقدم المصلحة الشخصية على العامة». حتى حزب الزعيم بنسعيد نفسه (منظمة العمل الديمقراطي الشعبي) لم يسلم بدوره من تبعات هذه الطفرة ما أدى به إلى الانشقاق.

وهنا، أيضا، ذهبت بي المقارنة تجاه حزب العدالة والتنمية وانشقاقه الذي بدا وشيكا حين أحيل زعيمه على التقاعد المبكر. لم ينشق، لكن ما جرى له بعد ذلك، يذكرك بذلك التيار الجديد المذكور أعلاه، ذلك التيار الذي يصنعه الجهاز نفسه الذي دجّن رموزا من جيل السلاح والثورة والتمرد وحوّلها إلى لفيف أليف.

لنختم المقال بهذه الفقرة من مذكرات هذا المناضل المتألق، وللقارئ التسلّي بعدها بإجراء المقارنات التي يشاء: «يكمن وجه الخطورة الأساسي للعمل في المؤسسات، وخصوصا البرلمان، عندما يستقطبك النظام وتصبح أداة في يده يفعل بك ما يشاء. هذا ما وقع وتكرر مع الأسف الشديد للعديد في صفوف قوى اليسار. فبعض المناضلين بدخولهم إلى هذه المؤسسة تغيرت شروط حياتهم المادية وتحسنت أوضاعهم وبدؤوا ينسلخون تدريجيا عن مواقفهم ومواقعهم الأصلية، وعن نظافتهم النضالية، بل أصبحوا يشكلون نوعا من جماعات الضغط المتنفذة «وجيوب المقاومة» داخل أحزابهم».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي