البترو- سلاح

19 أبريل 2019 - 14:17

أصبح المشهد الآن، مكتملا، تماما، في كل العواصم الثائرة بين المحيط والخليج تزحف الدبابات في الشوراع وتظهر بزات عسكرية مزينة بنياشين، على شاشات الأخبار تقرأ بيانات متتالية عن أهمية الاستقرار وضبط المجتمعات المنفلتة من القيود. ولأن المؤسسات التقليدية قد قتلها وفككها الاستبداد السياسي خلال الخمسين سنة الأخيرة، والمؤسسات الديمقراطية الحديثة لم تولد بعد إلا بشكل مصطنع، فإن ما تبقى هو مؤسسة الجيش النظامي المدرب والمسلح، والذي يتمتع بجزء غير قليل من موارد الدولة، التي تأتي من ضرائب يدفعها مواطنون مفلسون، وجدوا أنفسهم مجبرين لتمويل خزينة دولة مثقوبة، يحكمها سياسيون مرتشون وفاسدون وغير وطنيين.

لا جديد إذن، فهناك عسكريون في مكان. بعضهم تخرج من كليات عسكرية أجنبية، مما يضع ولاءه لوطنه موضع شك، وبعضهم كبر وترعرع في ظل عقيدة عسكرية مبنية على أن المواطن هو العدو الأول. والآن، جاءت فرصتهم الذهبية لخوض تجربة الحكم، بعدما حكم أسلافهم الذين جاؤوا للسلطة خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين على ظهر الدبابة نفسها، ووفق المنطق نفسه؛ الجميع تحت الحذاء العسكري.

يبدو هذا الواقع متناقضا مع نفسه؛ لقد خرج الجيل الحديث ضد السلطوية وأبوية دولة الرعاية الفاسدة، فكان الجواب عن مطالبهم التحررية: ما نقترحه عليكم، هو أبوية عسكرية دموية تبدأ مشاريعها في البنية التحتية بتحديث السجون وبناء أخرى جديدة لأن الطلب عليها سيكثر لا محالة لما يكون العسكريون وراء قيادة الدولة وليس في الثكنات. حتى إن دولة في شمال إفريقيا، يحكمها ماريشال مصطنع بنت عشرات السجون في ظرف قياسي، فالسجن في ذلك البلد بعد مجيء العسكر إلى الواجهة بعدما كان في الخفاء أصبح مؤسسة قائمة الذات لممارسة الحكم، بل مؤسسة للحكم. فالسجن تحول إلى سلطة، سلطة رابعة، بعدما أعدمت السلطة الرابعة الحقيقية. لكن كما السلط الأخرى، فهو سلطة بيد من بيده مقاليد الحكم وليس بيد الشعب.

الدول التي كانت تصدر البترول مقابل الورقة النقدية الخضراء، ضاعفت مقتنياتها من الأسلحة. إن البترول الآن، يُباع مقابل السلاح، وما عقد من صفقات في العقد الأخير مهول، ويفوق الحاجات الضرورية لدول يعيش عدد من مواطنيها تحت عتبة الفقر، وتعاني طبقاتها الوسطى من تدهور مستمر لقدرتها الشرائية بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة والفساد وتغول الدولة على حساب حرية الأفراد والأسواق خلال الخمسين سنة الأخيرة.

تتحكم لوبيات السلاح في الساسة كما تتحكم فيهم شركات البترول. وإذا عقدت صفقات أسلحة وصفقات بيع البترول وراء الأبواب المغلقة، فإن اتفاق سلام مثل “اتفاق الصخيرات” لإنهاء الأزمة الليبية يذهب أدراج الرياح رغم مصادقة كل الأطراف عليه باستثناء جنرال واحد، ويكون السلام والاستقرار الاجتماعي مسألة ثانوية في أجندات الدول. وما يتبقى للأمين العام للأمم المتحدة، هو التعبير عن الأسف قبيل مغادرته العاصمة الليبية طرابلس، وإصدار بيانات التنديد والإدانة التي لن توقف آلة الحرب طبعا.

هناك عامل موضوعي جعل المؤسسة العسكرية تقفز إلى مقدمة المشهد، وهو طبيعتها؛ حيث العساكر يستعدون دوما لمعركة مقبلة، ولمّا انهارت كل المؤسسات بقيت هي المؤسسة التي تتمع بقدرة على التقدم للأمام وممارسة شؤون الحكم. ولمّا ستتحكم الجيوش في المشهد الداخلي خلال الأشهر المقبلة، فستمر لشن حروب خارجية ضد الدول المجاورة لتصريف المشاكل الداخلية والأزمات التي لن تحل من دون مؤسسات مدنية منتخبة وديمقراطية. آنذاك، سيصبح سوق السلاح العالمي متعاظما، وستتحول القيمة الحقيقية لبراميل النفط التي تخرج من بلدان المنطقة إلى ما تستطيع شراءه فعليا من أسلحة حربية، وسندخل عصر البترو- سلاح من أوسع أبوابه.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

السماك بن خرشة منذ 4 سنوات

حتى إن دولة في شمال إفريقيا!!!! لماذا لم تسمِّ الدولة؟؟؟؟؟

التالي