جاك أطالي: نحن والرياضيات...

25 أبريل 2019 - 17:59

جميع الدراسات المنجزة؛ سواء من طرف وزارة التربية الوطنية الفرنسية أو من طرف المنظمات الدولية تبيِّن أن مستوى التلاميذ الفرنسيين في الرياضيات في تراجع  مستمر؛ وذلك منذ عشرين سنة على الأقل. وحتى وإن كان يتدنى بوتيرة أقل سرعة؛ فإنه مستمر في التراجع. فتلاميذ الإعداديات الفرنسية مثلا، هم الأسوأ من بين تلاميذ الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)؛ فيما يخص التمكن من معادلات الكسور (les fractions).

حتى في الشُّعب العلمية بالأقسام النهائية للبكالوريا؛ التي من المفترض أنها أقسام امتيازية؛ تعتبر فرنسا الدولة الأوروبية التي تعرف مستوى أكثر تدنٍّيا في الرياضيات اليوم، مقارنة مع سنة 1995؛ مع فارق يتناقص دون أن يختفي بين الذكور والإناث. وإذا كنا لانزال واحدة من الأمم الأفضل في العالم في مجال البحث العلمي في الرياضيات؛ فإننا لن نستمر، كذلك، بعد مستقبل قريب جدا؛ إذا واصلنا الانزلاق في هذا المنحدر بهذه السرعة. مع ما سيكون لذلك من تداعيات مأساوية على مستويات مهندسينا، وباحثينا، ومقاولاتنا.

وأسباب هذا التراجع معروفة: المحاولة الكارثية خلال سنوات السبعينيات لتدريس الطوبولوجيا(La topologie) ؛ أو (علم الفراغ وعلم المكان)، وكذلك علم البديهيات الجبرية (l’axiomatique)؛ منذ التعليم الابتدائي، مع تحديد جميع مواضيعها عن طريق نظام المفاهيم التصورية؛ وهذه المنهجية أحدثت خرابا ودمارا حقيقيا في القدرات الإملائية والنحوية للتلاميذ. ومن بين الأسباب، كذلك، توظيف أساتذة للرياضيات من بين طلبة قادمين من شعب أدبية؛ لم تكن لهم أي رغبة في تعليم ما ظلوا هم أنفسهم ينفرون منه طوال مسارهم التعليمي.

كل هذا يمكن إصلاحه؛ ونحن بالفعل نقوم بذلك مع كل الأمل في النجاح؛ خصوصا منذ وقت قريب؛ عندما أصبحنا نستلهم المناهج المتبعة في سنغافورة (البلد الذي أزاح مؤخرا «فنلندا» من على رأس ترتيب دول الـ «OCDE»: بحيث يتم إدراج فقط، العمليات الأربع للحساب ابتداءً من الأقسام الابتدائية، مع الحرص على استعمال الأعداد الصغرى فقط، دون غيرها، ومع التمييز بشكل واضح بين مرحلة ملموسة ومرحلة مُتَصَوَّرة؛ قبل المرور إلى التجريد (الحساب الذهني). وكذلك بتوظيف وتكوين مدرسي التعليم الابتدائي بطرق أخرى.

وفي الأخير؛ وربما على الخصوص؛ وبفهمنا لكون تعليم الرياضيات يتطلب سلسلة من القدرات والمميزات التي لم تعد مواكبة لعصرنا: مثل التركيز، والمثابرة، والترديد، والحفظ عن ظهر قلب، والقدرة على الاعتراف بنقط النقص وعلى السعي إلى تحسينها، والعمل الجماعي بقصد استفادة التلميذ من تفسيرات الآخرين لما فهموه قبله. إنها سلسلة من المزايا والخصال التي أُعرِّفها على أنها تلك القدرة على «الاستثمار الذهني»؛ التي تستخف بها الحداثة وتخفض من شأنها؛ بينا تمجد هذه الحداثة وتعلي من شأن المتع الغامضة والمختلسة، والنجاحات بدون مجهود، والمكاسب الناتجة عن الصدفة وبضربة لازب. وكل هذا إنما هو مجرد أوهام سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.

جميع تصنيفات ومراتب الأمم أو المقاولات أو الأفراد؛ تُظهر بأن هذا التطلع على المدى البعيد هو مفتاح النجاح؛ وذلك بسبب الحوافز التي يستتبعها، والمناهج التي يستحثها، والمجهودات التي يتطلبها. والأمم، والأسر، والتجمعات البشرية، والأفراد الذين يعلمون، أو الذين يستطيعون أن يعطوا الأولوية لهذا الاستثمار الذهني، وأن يعطوا معنى للجهد المبذول؛ هم الذين ينجحون اليوم أكثر في بلوغ أهدافهم، وتحقيق أحلامهم؛ بما فيها تلك التي كانوا يظنون أنها صعبة؛ بل مستحيلة المنال.

في أوقات النقاشات الكبرى هاته؛ حيث يستمر البحث عن الوسائل المؤدية إلى مجتمع أفضل، وأكثر عدالة، وأكثر استمرارية، قادر على خلق ظروف لمزيد من السعادة، ولمزيد من النماء والتطور، وعلى خلق مناخ أفضل للجميع؛ في هذه الأوقات علينا أن نفهم بأن الحل ليس فقط في الإصلاحات  الضريبية، أو المؤسسية؛ ولكن كذلك في التعليم، وفي تثمين الاستثمار الذهني في جميع الأعمار؛ وهنا الثورة الحقيقية. هناك البعض من المحظوظين الذين يقومون بذلك في فرنسا. ولكن يجب القيام بكل ما يمكن حتى يصبح هذا متاحا للجميع.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي