رجال حول الملك.. عبد الرحمن اليوسفي تاجر السلاح -الحلقة9

16 مايو 2019 - 21:00

اعتمد السلاطين المغاربة عبر التاريخ في تسيير شؤون الدولة، على ثلة من الرجال، إما لانتمائهم العائلي أو لكفاءتهم وولائهم.. وهكذا فقد تميز تاريخ المغرب المعاصر بظهور هؤلاء الرجالات حول الملك، الذين تركوا بصماتهم على مسار الحياة السياسية ببلادنا، كما كان لهم تأثير فعلي على توجيه بوصلتها.. كتاب “رجال حول الملك”، لمؤلفه محمد الأمين أزروال، يرسم بروفيلات للعديد من هؤلاء الشخصيات التي اخترنا نشر ملخصات عنها.

تميزت شخصية القيادي الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول في حكومة التناوب، بالتواضع والواقعية وبالمرونة السياسية كذلك، وهي صفات أهلت ابن السوق الداخلي بطنجة، لكسر الحاجز النفسي ووضع حد للقطيعة التي دامت أربعة عقود، بين الاتحاد في طبعتيه الأولى والثانية وبين القصر الملكي.

بعد أن حصل على الإجازة في القانون وعلى دبلوم الدراسات العليا في العلوم السياسية، في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي في فرنسا، عاد إلى مدينته طنجة التي فتح بها مكتبا للمحاماة سنة 1952، وظل يمارس هذه المهنة إلى سنة 1960، كما مارس المهنة خارجيا عندما كان يعيش في المنفى الاختياري بفرنسا، فقد تميز في مرافعاته أمام المحاكم بالانحياز إلى القضايا العادلة وإلى نصرة المظلومين، مما أكسبه شهرة ليس على المستوى الوطني فحسب، بل على المستوى الدولي كذلك، علما أنه تقلد مهمة نقيب المحامين بطنجة سنة 1959، إذ لم يغادر مكتب المحاماة بطنجة إلا سنة 1960، للانتقال إلى الدار البيضاء للانضمام لرفاقه السياسيين ويمارس مهنة الصحافة كرئيس للتحرير بجريدة “التحرير” التي كان يصدرها حزب المهدي بن بركة، وكان يشغل مهمة إدارتها آنذاك الفقيه محمد البصري.

لعب اليوسفي دورا في توفير السلاح للمقاومة في المغرب والجزائر خلال الاستعمار، وفي هذا الإطار كانت أسفاره إلى اسبانيا، حيث اتصل بالدكتور حافظ إبراهيم المواطن التونسي الذي كان يعمل طبيبا في العاصمة الإسبانية مدريد الذي كانت تربطه علاقات بعدد من الشخصيات النافذة في المجتمع الإسباني، وكان لا يبخل في تقديم مساعداته، لرجال المقاومة في البلدان المغاربية، حيث كانت له أفضال كبيرة على حركات التحرير في هذه البلدان، التي ساعد رجال المقاومة فيها بالمال والسلاح، وكان- من باب الاعتراف بالجميل لهذا المناضل المغاربي الكبير- أن تقام له ذكرى في البلدان الثلاثة: المغرب والجزائر وتونس بلده الأصلي، ولم لا إطلاق اسمه على شوارع بالعواصم الثلاثة؟، تقديرا واعترافا لروحه لما أسداه من خدمات، في سبيل تحرير هذه البلدان.

توطدت علاقة الرجلين وفتح حافظ إبراهيم أبواب أوروبا، في وجه عبد الرحمن اليوسفي الذي اضطلع بدوره على الوجه الأكمل، مما سهل مهمته في استيراد السلاح من أوروبا وكذلك من مصر لفائدة، ليس جيش التحرير المغربي فقط، بل لفائدة جبهة التحرير الجزائرية كذلك.

وكعربون على المودة التي نشأت بين حافظ إبراهيم واليوسفي ما رويته عن صديقي حميد خباش الذي زار المرحوم حافظ إبراهيم في أواخر التسعينيات بإقامته الرائعة والجميلة بمدريد، حيث أطلعه على الغرفة التي خصصها لإقامة اليوسفي والتي احتفظ بها كما هي، رغم مرور السنين وفاء للعلاقة، وما يعاتب على اليوسفي هو أنه لم يتعرض لعلاقته بهذا الرجل في مذكراته التي صدرت مؤخرا بعنوان: “أحاديث فيما جرى” .

وعندما قدم الملك الحسن الثاني اليوسفي لولي عهده سيدي محمد قال له: “أقدم لك أكبر تاجر للسلاح”، لعلمه بما قام به اليوسفي في هذا الصدد أيام الكفاح المسلح ضد المستعمر.

رغم أن شخصية عبد الرحمن اليوسفي تتميز بالهدوء، حيث يزن الكلمة بعيدا قبل النطق بها، أو كما قال عنه صديقه الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي: يدير لسانه سبع مرات قبل أن يتكلم، ويحكي عنه كل الذين عاشروه أنه لم يسجل عنه أنه تلفظ يوما أمام مجالسيه بكلمة خادشة للحياء، إلا أن اصطفافه في صف نسور الاتحاد، أمثال المهدي بن بركة والفقيه البصري، جر عليه كثيرا من المتاعب، وذلك انطلاقا من اشتغاله كرئيس للتحرير في جريدة “التحرير” التي كان يديرها المعارض الصلب الفقيه البصري، الذي جعل من الجريدة منبرا لتصفية الحسابات مع النظام، وذلك بشن حملات إعلامية تفيض لهجتها بعبارات التطرف والمبالغة في القدح والذم، حيث كانت تتصدر صفحاتها الأولى عناوين بارزة ومانشيطات مزعجة للنظام الذي كانت تصفه بأوصاف مستفزة، من قبيل الحكم الفردي والحكم المطلق.

وباعتبار رئيس التحرير هو المسؤول قانونيا وأخلاقيا عما ينشر في الجريدة، فقد بدأت رحلة متاعب اليوسفي مع النظام، انطلاقا من سنة 1959، عندما تعرض للاعتقال لأول مرة رفقة الفقيه البصري، بتهمة التحريض على الإخلال بالأمن العام، وصدر في حقه بالتالي حكم بالسجن لسنتين نافذتين، ثم لم يلبث أن صدر عنه العفو سنة 1960، ليعود من جديد إلى موقعه بالجريدة، إلا أن ذلك لم يكن له أي تأثير على لغة الجريدة كما لم يخفف من لهجتها التي ازدادت تصعيدا أكثر. ومما زاد الطين بلة وزاد في تعميق الخلافات بين الحزب والنظام، هو موقف الحزب من دستور 1962 ومقاطعته للاستفتاء عليه.

وهكذا وبينما كانت اللجنة الإدارية مجتمعة بالدار البيضاء، بقصد تقييم نتائج اقتراع 1963 لانتخاب أول برلمان مغربي في عهد الاستقلال واتخاذ موقف سياسي منه، داهمت الشرطة مقر انعقاد الاجتماع، وألقت القبض على كل أعضاء اللجنة الذين كان اليوسفي من ضمنهم، وأحيلوا على المحاكمة، فيما عرف بمؤامرة 1963 لقلب النظام وصدرت أحكام متفاوتة في حق المعتقلين، وكان أن تعرضت جريدة التحرير تبعا لذلك للمنع من الصدور، ثم ما لبث أن صدر عفو في حق رئيس تحريرها اليوسفي، إلا آن أحداث الدار البيضاء يوم 23 مارس 1965 وما أعقبها من حل البرلمان وإعلان حالة الاستثناء، ثم اختطاف الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة في باريس يوم 29 أكتوبر من نفس السنة، زادت من تأزيم الأوضاع والمواقف بين الحزب والنظام، حيث كانت مناسبة الإدلاء بشهادته في قضية بن بركة، فرصة لليوسفي ليختار المنفى والبقاء في فرنسا لمدة 15 سنة كاملة، كان خلالها قد صدر عليه أيضا حكم بالإعدام في محاكمة مراكش 1969، إذ لم يعد إلى المغرب إلا سنة 1980 وبعد حصول الانفراج السياسي، في أعقاب المسيرة الخضراء التي خلقت مناخا سياسيا جديدا، تميز بالإجماع حول قضية الصحراء وصدور عفو عن عدد من المعارضين، ليعود اليوسفي إلى نشاطه كعضو في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي الذي كان قد انتدبه ممثلا له في الخارج منذ مؤتمر 1975 الذي قرر فيه الحزب، المشاركة السياسية وممارسة المعارضة من داخل المؤسسات الدستورية.

وبما أنه شمله العفو الذي صدر في حق عدد من المعارضين، فقد عاد إلى بلده سنة 1980، ليمارس نشاطه كعضو في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، حيث أحدث الحزب لأول مرة منصب نائب الكاتب الأول وبعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد سنة 1992 خلفه اليوسفي نائبه.

في هذه الأثناء كانت بوادر حكومة التناوب قد بدأت تلوح في الأفق، حيث دشن القصر الملكي اتصالاته مع أقطاب الكتلة الوطنية التي كان لعبد الرحمن اليوسفي دور هام في أحيائها وزرع الروح فيها من جديد، وهكذا استقبل اليوسفي سنة 1998 من طرف الملك الذي كلفه بتشكيل حكومة التناوب التوافقي.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي