الزمن الذي كان.. الإدريسي: صدمت بوجود صورة أخرى لإبن بلة مختلفة عن تلك التي كنت أتخيلها -الحلقة14

24 مايو 2019 - 02:03

من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجة والجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات الرمضانية، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. فـ«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة.

ما دور الحزب في هجرتك إلى الجزائر؟

كان هذا العامل الثاني الذي شجعني على الالتحاق بالجزائر، وأشير هنا أساسا إلى ما كان ينشره إعلام حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن الجزائر؛ فجريدة التحرير، مثلا، كانت تنشر كل ما هو إيجابي عن الجزائر في صفحتها الأولى، وتتبع أنشطة الرئيس الجزائري أحمد بن بلّة باهتمام يفوق بعشرات المرات ما كان يحظى به النشاط الرسمي للملك الحسن الثاني، بل أن هذا الإعلام كان يعامل أحمد بن بلة بدلع كبير، إذ كان يناديه مثلا بـ”احميمد”. وكان ذلك يوحي لنا بأن الأمل في تجسيد الحرية، وتحقيق الكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، وسعادة الانتصار، له عنوان واحد هو الجزائر.

 وهل حين وصلت الجزائر وجدت الوضع يماثل ما كنت تتصوره ورسمه في خيالك إعلام الحزب؟

في شهر سبتمبر 1964 حللت بمدينة مغنية الجزائرية عن طريق “زوج بغل”. وهناك احتسيت أول قهوة على أديم الجزائر. ومن هناك امتطيت الحافلة إلى مدينة المحمدية المعروفة سابقا باسم Perrégaux قصد النزول عند أحد أقاربي. وأثناء رحلة السفر، التي استغرقت حوالي 6 ساعات عن طريق وهران، صدمت بوجود صورة أخرى لأحمد بن بلة مختلفة عن تلك التي كنت أتخيلها، أو تلك التي كان قد رسمها في وجداني قادة الاتحاد في تنويهاتهم وإشاداتهم بـ”احميمد”. ولم يكن الأمر يتعلق بالتعاسة المرسومة على وجوه الركاب فقط، بل إن أحاديث ركاب كثيرين المسموعة، وكذا حواراتهم البينية، لم تكن تحمل ودا كبيرا للرئيس بن بلة، ربما بسبب سياساته الزراعية التي كانت تقوم على التسيير الذاتي، حسب ما استرق سمعي من المتحاورين والمتجادلين.

هذه الصورة الأولى التي واجهتني. غير أني حاولت تأويل عدم رضى جزائريين بمبرر آخر يتعلق بطول رضوخ الجزائر للاستعمار التدميري والتفقير الممنهج للقضاء على الإنسان الجزائري وقيمه الثقافية، طيلة قرابة قرن وثلث قرن من الزمن. وقد أصاب “فرانز فانون” عندما وصف الدور الاستعماري بأنه “محو منهجي للإنسان”. وقد تكون هذه المدة قد تركت بلا أدنى شك آثارها على حياة الجزائريين. وبعد إقامة قصيرة في المحمدية قررت مواصلة طريقي نحو الجزائر العاصمة، التي اكتشفت فيها شَبَها رائعا مع طنجة الجميلة. وكنت أسميها طنجة الكبرى أو grande Tanger. وهناك اتصلت بقيادات اتحادية، التي كان حضورها قويا فيها، ومن جملتها قيادة UNEM في شخص رئيسه السابق حميد برادة.

 هل تتذكر شخصيات أخرى التقيت بها هناك؟

أُنزِلتُ في الحي الجامعي الموجود بحي بن عكنون. وكان عدد الطلبة المغاربة الذين تستقبلهم الجزائر في تزايد مستمر، وأذكر منهم أسامة شقيق حميد برادة، وأحمد بن جلون، وأحمد أمزوج، وعبد الكريم الجعيدي، وعبد الرحمان العلوي، ومبارك بودرقة، ومحمد طلال، والشاعر الصحافي محمد على الهواري. وعبد ا الأفلاحي، ومحمد بن يحيى، وادريس الحايك، وإبراهيم كامل، وغيرهم كثير. وعدد منهم كنت قد التقيت بهم في ندوة المعمورة المشار إليها سابقا. إضافة إلى عشرات آخرين جيء بهم من القاهرة قصد متابعة دراساتهم في الجزائر، كان من بينهم الصديق عبد السلام الغازي الذي ربطتنا علاقة صداقة في ندوة المعمورة سالفة الذكر، ولا تزال تلك الصداقة تنمو وتتوطد وتجمعنا إلى اليوم (2019).

وكيف وجدت هذه القيادات الاتحادية هناك؟ هل بنفس الصورة التي كنت تتخليها؟

أدرك هناك أن قادة الاتحاد في الجزائر كانوا يهتمون أساسا بالجوانب الأمنية، فيلجؤون إلى تجنيد الطلبة في نظام استخباراتي احترازي، وكذلك كانت تفعل قيادة UNEM . فقد طلب مني حميد برادة كتابة تقارير عن الطلبة القادمين من أقاليم الشمال بخاصة. وفي السياق نفسه اكتشفت أن طرح الأسئلة على “الزعماء” ومساعديهم يُنظر إليه كتمرد على تعليمات القيادة، ونوع من السلوك المؤدي إلى اختلال النظام، وعملا مناهضا لنضال الاتحاديين، أو ينظر إليه بأنه تجسس لصالح المخزن. فالسؤال المعرفي أو الاستيضاحي ليس لم يكن له مكان محترم داخل أروقة الاتحاديين. وكل سؤال كان ينظر إليه بتوجس كبير قد يصل إلى مستوى التخوين. وكان السؤال الذي يردده الكثير مع نفسه أو مع صديقه الموثوق من صداقته، هو: هل بدلت من نظام التخويف والترويع لأجد نفسي في وضعية نظام التوجس خيفة من قيادة “النضال”، والترهيب المغلف باحتمالات اختراق المخزن والقوى الرجعية صفوف الاتحاد.

ومن ثمة انعدم اليقين بين صفوف المناضلين، وساد الشك والارتياب في أشياء كثيرة. كان الوضع يصعب قَبوله، إلا من قِبَل من كانت له مصلحة في الحصول على التسجيل الجامعي والمنحة والإقامة في الأحياء الجامعية بالمجان؛ وهي المجالات التي كان يتحكم فيها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومراقبة من قبل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ولذلك فالنضال “الناجح” كان مسلكه يمر عبر تقديم الولاء التام لكل ما يصدر عن قيادة الاتحاد، وتمجيدها علنا وفي كل مناسبة وبدون مناسبة، وعدم طرح أي سؤال إلا ما كان في خدمة تمجيد الحزب وقيادته.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي