الزمن الذي كان.. سفر في ذاكرة الإدريسي -الحلقة15

25 مايو 2019 - 02:00

من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجة والجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات الرمضانية، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. فـ«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة.

بعد وصولك إلى الجزائر، اندلعت حرب الرمال، كيف عشت هذا الحدث؟

حين وقعت «حرب الرمال» بين المغرب والجزائر في أكتوبر 1963، فإن مشاعري، ومشاعر كثير من المغاربة الريفيين بخاصة، مالت إلى تحميل المغرب مسؤولية إشعالها، ليس بسبب ميول اتحادية فحسب، بل كنت وغيري نعتقد جازمين بأن المغرب هو الظالم، قياسا على الظلم الذي تعرض له الريف في انتفاضة 58 و1959 بأمر ولي العهد، آنذاك، الحسن بن محمد الخامس.

 أشرت إلى علاقة المناضلين بالقيادة الحزبية، هل كنت من الموالين أم ممن يطرحون السؤال؟

بما أنني لم أكن أتوفر على شهادة البكالوريا بعد، وبعد رفض طلبي قصد الحصول على منحة للدراسة في إحدى الدول الشيوعية أو العربية لإنجاز الباكالوريا؛ فقد كان ذلك ممكنا جدا عند قيادة L’UNEM. ولذلك قررت القيام بعمل مدرس للغة العربية في وزارة التربية الوطنية الجزائرية. ريثما تتوفر لدي شروط الالتحاق بالجامعة.

هل أفهم من هذا أنك تخلّيت عن النضال في الاتحاد؟

كنت أعتقد، ولا زلت، بأن النضال رسالة لها مقاصدها النبيلة في التطور السياسي، وفي التغيير الاجتماعي، والتقدم الاقتصادي نحو الأفضل، وفي مساهمة الأجيال في تنوير العقول واقتراح الحلول للمشكلات القائمة وللقضايا المستجدة، بهدف التقدم والرقي الإنساني؛ وليس عناوين أو أشخاصا معينين. ولذلك، فرغم التحاقي بالتدريس لم أترك إقامتي الجامعية، كي أواصل نضالي مع الذين تتوافق آرائي وآراؤهم إن كثيرا وإن قليلا مع بعضها البعض. من صور ذلك النضال، مثلا، في شهر مارس 1965، طرح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سؤالا على مناضليه في الجزائر لمعرفة رأيهم برغبة المخزن في عودة المهدي بن بركة للمغرب لقيادة الحكومة. وُزِّع السؤال على خلايا الحزب لإبداء رأيها. وكان الجو العام يميل إلى قبول عرض المخزن. أما الخلية التي كانت تتكون من أحمد بن جلون، وأحمد أمزوج، وعبد السلام الغازي، ومن شخصي المتواضع، فقد عارضتْ بشدة الطرح المخزني، واعتبار القبول به تراجعا وخيانة لنضال الشعب المغربي. لم يهدأ نقاش هذا الموضوع إلا بعد اختطاف بن بركة في 29 أكتوبر 1965 فتحول نقاش التصالح مع النظام إلى اتهام المخزن بالوقوف وراء ما حدث.

 كنتم مناضلين مغاربة في الجزائر، كيف كانت الجزائر العاصمة وقد غادرها الاستعمار للتو؟

في البداية، عرفت أن اسم الجزائر العاصمة اشتق من موقع قبيلة جزائر بني مزْغنّة، التي كانت تستوطن المكان قبل القرن السابع عشر الميلادي. وهي كباقي مدن العالم الإسلامي تشتهر بمساجدها وأضرحة أوليائها وأبوابها. ومن أشهر مساجدها المسجد الأعظم الذي بناه يوسف بن تاشفين في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وجامع «كتشاوة» الذي بني في أواخر القرن الثامن عشر من قبل الأتراك، وقد حوله الاستعمار إلى كنيسة، قبل أن تعيد إليه الجزائر المستقلة هويته الإسلامية. ومن أشهر أضرحتها ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي (تـ 872 ه) وضريح سيدي امحمد (تـ1793).

 وماذا عن باقي مآثر العاصمة العمرانية خصوصا وأنه تعاقب عليها العثمانيون ثم الفرنسيون؟

تتكون مآثرها العمرانية من مدينة «القصبة» المبنية من قبل الأتراك العمانيين في العقود الأولى من القرن السابع عشر الميلادي، لكي تكون عاصمة للجزائر العثمانية ومقرا للحاكم الفيدرالي «الدّاي». وأهم أبوابها، التي لا تزال أسماؤها تذكّر الجزائريين بأن مدينتهم كانت مسورة على شاكلة المدن القديمة ولها أبواب، هي: باب الوادي، وباب الدزيرة، وباب البحر، وباب عزّون، وباب الجديد، لكن تلك الأبواب أمست أثرا بعد عين في زمن الاستعمار، باستثناء باب الجديد. وبنى المعمرون الفرنسيون مدينتهم، وفقا لمعايير العمارة الأوروبية الحديثة، وأنجزت على مدى 130 سنة من الاستعمار. وأبلغ مقارنة بين مدينة الجزائريين وأحيائها وبين مدينة الأوروبيين وأحيائها عبر عنها بمرارة الرافضين للظاهرة الاستعمارية «فرانتز فانون» (Frantz Fanon) في كتابه «معذبو الأرض».

 هل الازدواجية العمرانية تتجلى أيضا في الثقافة السائدة داخل المدينة؟

بالفعل، كانت هناك ثقافة مدينة الأوروبيين وعالمهم وبعض تابعيهم من الأهالي، وهي ثقافة لم تكن تختلف عن ثقافة المدن الفرنسية المتوسطية، باستثناء طابعها الاستعماري، مدينة يحظر على عموم الجزائريين الفسحة في شوارعها وأحرى أن يعيشوا فيها. وفي الجانب الآخر، كانت هناك ثقافة مدينة الجزائريين (القصبة) وأحيائها التي خلد القاص محمد ديب بعضا من معاناتها في روايته «الحريق». وعموما كانت ثقافة قريبة الشبه مع ما أطلق عليه الاستعمار «المدينة العتيقة» أو La médina في المغرب. والتشابه بين ثقافة المدن المغاربية ليس جديدا، خاصة في ظل غياب عوامل الجذب من الأمام لمدننا منذ عهد بعيد؛ ففي القرن السادس عشر، مثلا، ذكر حسن الوزان في كتابه «وصف إفريقيا» أن تشابها كبيرا كان يجمع بين ثقافة فاس وثقافة تلمسان.

غير أن المسألة الثقافية في الجزائر أخذت، في السنوات الأولى للاستقلال، بعدا آخر؛ يتمثل بصفة خاصة في المواجهة الشديدة بين تيارات الثقافة الغربية باسم الحداثة واللحاق بركب الحضارة، وبين تيارات الفكر السلفي والتراثي تحت مسوغ تجديد الذات، وتيار الفكر القومي بمبرر الانبعاث العربي. وكان الصوت الأكثر حضورا وتداولا بين الطلبة هو صوت النضال اليساري ــ الحداثي بكل عنفوانه وشطحاته.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي