افتتاحية توفيق بوعشرين.. شبح الماضي يطل برأسه

07 يوليو 2019 - 18:01

افتتاحيات كتبها توفيق بوعشرين قبل الاعتقال… كل نهاية أسبوع على « أخبار اليوم » و »اليوم 24».
الكلمات الصادقة لا تموت…

تأسست هيأة الإنصاف والمصالحة في المغرب قبل 13 السنة على ثلاثة أسس، أولها قراءة كتاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على عهد الملك الراحل علانية وبدون عقد، وثانيها تعويض ضحايا سنوات الجمر والرصاص ماديا ومعنويا، واعتذار الدولة عما فعلت من جرائم في حق البشر، وثالثا الالتزام بعدم تكرار ما جرى ووضع قوانين ومؤسسات ومواثيق لرعاية حقوق الإنسان، وزرع ثقافتها في عقل الدولة الأمني والقضائي والتشريعي والإداري…

هذه كانت هي الصيغة المغربية من العدالة الانتقالية، التي قادها الراحل إدريس بنزكري ورفاقه في هيأة الإنصاف والمصالحة، وجلهم من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان على العهد السابق، وحتى وان كانت (الصيغة المغربية) فيها خصوصيات كثيرة، وتنازلات كثيرة عن المعايير الدولية للعدالة الانتقالية، فإن أحدا لم يتصور أن تعود (حليمة إلى عادتها القديمة)، وأن تتبخر كل توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، وتراثها، وأدبياتها، وتعهدات الدولة تجاه الحقوق والحريات في ظرف وجيز (أقل من عشر سنوات)، وأن تعود السلطة للاعتقال السياسي، وإلى محاكمة الصحافيين على آرائهم، وإلى ممارسة التعذيب في السجون وإن لم يكن ممنهجا، وأن تعود حكومة العثماني إلى عادة وزير الداخلية السابق إدريس البصري في لعن المنظمات الحقوقية الدولية، واتهامها بالجاهز من القول: مثل (تسييس) التقارير الحقوقية عن المغرب و(الجهل بالواقع) وخدمة أجندة دول ومؤسسات تكن عداوة فطرية للمملكة الشريفة ولمصالحها، ولفرادة تجربته وتقدمها عن محيطها العربي الغارق في جهالة ما بعدها جهالة!…

المجتمع الذي تنازل عن حقه في محاكمة الجلاد الذي عذب مواطنين مغاربة، والقصاص من قاض باع ضميره للسلطة، ومحاسبة السياسي الذي وضع إطارا لجرائم حقوق الإنسان، المجتمع الذي قبل طي صفحة الماضي، ودفن شهداء النضال واستخرج لهم شهادة وفاة، هذا المجتمع لم يصفح ولم يغفر ولم يتنازل عن حقوقه لأن الدولة عوضت ضحايا الانتهاكات ماديا، وأقامت النصب التذكارية لذويهم، وكتبت آلاف الصفحات في الكتاب الأسود للمرحلة المظلمة، المجتمع تنازل عن حقه بوعد عدم تكرار ما جرى، وبأمل التطلع لمستقبل أفضل، وبنية ألا يعيش الأبناء ما قاساه الآباء والأجداد، هذا هو الثمن الحقيقي (للعدالة الانتقالية) ولتجربة الإنصاف والمصالحة…

لو عاش إدريس بنزكري إلى أن يرى 360 معتقلا شابا يدخلون السجون اليوم لأنهم تظاهروا في شوارع مدينة الحسيمة سلميا، من أجل جامعة ومدرسة ومستشفى وطريق وفرصة شغل وبعض من الكرامة، هل كان سيسكت عن جريرة فتح كتاب جديد من خروقات حقوق الإنسان؟

لو عاش بنزكري حتى رأى صحفيا مثل حميد المهداوي يحكم عليه بثلاثة أشهر حبسا ابتدائيا ثم تصبح سنة استئنافيا، بتهمة الصياح في الشارع العام، مع أن الصياح له فصول في قانون الصحافة ليس فيها حبس ولا سجن، هل كان سيغلق فمه ويستسلم لنعومة الحياة فوق كرسي أو مجلس أو هيأة أو لقب…

حراك الشباب لم يعر فقط أعطاب التنمية في منطقة الريف، بل عرى أعطاب نظام سياسي كامل يعيد إنتاج أخطاء الماضي وانتهاكات الماضي وعقلية الماضي، حتى وإن غلفها بغطاء جديد، وخطاب جديد، وبروتوكول جديد، ولغة جديدة، كيف يمكن لبلاد أن تأكل وتنام وتتناسل وترقص وتغني وتثرثر و360 شابا دون الثلاثين من العمر يقبعون في زنازين باردة ويحاكمون على جرائم لم يرتكبونها، كيف سيصدق المواطنون إنجازات حكومة العثماني وفريقه الذين يعيشون حالة إنكار جماعي تستدعي منهم جميعا مراجعة طبيب نفسي…

الإصلاح الديمقراطي بناء متواصل، وهو يشبه ركوب دراجة هوائية عندما يتوقف السائق عن الحركة لا يبقى في مكانه فقط، بل يسقط عن الدراجة، هذا ما يقع اليوم في المغرب حيث توقفت عجلة الانتقال الديمقراطي عن الدوران فسقطت البلاد في سلم احترام حقوق الإنسان، وها هي تأكل من رصيد تجربة العدالة الانتقالية كانت تشكل نموذجا فريدا في المنطقة.

•هذه الافتتاحية نشرت بتاريخ 19 شتنبر 2017

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

youssef zeka منذ 4 سنوات

لآن أدركت لمذا سجن الرجل

التالي