يونس مسكين يكتب.. هداو هداو

09 يوليو 2019 - 18:00

كتبنا هنا قبل بضعة أشهر بمناسبة تعيين رؤساء عدد من الهيئات الدستورية، واخترنا حينها عنوانا يفيد بأن هؤلاء المعينين الجدد، وبينهم المندوب الوزاري الجديد أحمد شوقي بنيوب، هم «شموع الملك» التي أملت أن تضيء عتمة النفق الذي دخلناه سياسيا وحقوقيا. والمسؤولية الأخلاقية تلزمنا بالعودة إلى هذا الموضوع لنسجل مظاهر هذا النور الذي انتظرناه من «شموع الملك»، أو لنقرّ بخطأ توقعاتنا وإفراطنا في التفاؤل.

لو بقي الأمر عند الخرجة الإعلامية الأولى التي قام بها شوقي بنيوب، لقلنا إنها خبرة الحقوقي الذي رافق مشروع مُلك جديد في مصالحة الدولة مع المجتمع، وطي صفحة الماضي، حملته على إشباع رغبة سلطة «مغنانة» في تغليط الجميع، ومنحها صك التفوّق والبراءة من اجتراح الأخطاء في ملف حراك الريف واعتقال توفيق بوعشرين، مقابل إقناعها بالتراجع عن العقوبات القاسية التي أنزلتها بهؤلاء المواطنين. لكن، وبعد صدور التقرير الأخير حول الاحتجاجات الشعبية لمنطقة الريف، فإن المشكلة أصبحت أكبر وأخطر.

كلما حاولت أن أصغي إلى صوت المرافعات الجهورية للمحامي بنيوب المنبعث من بين فقرات التقرير، وهو يستميت في الدفاع عن براءة يراها مطلقة لأجهزة ومؤسسات الدولة، مقابل إغراق مركب الشبان الذين خرجوا غضبا لمقتل محسن فكري، وللمطالبة بمستشفى ومدرسة، دون أن ينفي ذلك احتمال وقوع بعضهم في أخطاء يجب أن يؤاخذوا بها ويتلقوا ما يناسبها من عقاب، وجدت صوتا آخر يتردّد في الأذن الثانية من بين دفتي كتاب «وكذلك كان» الحامل جزءا من مذكرات هيئة الإنصاف والمصالحة.

هذا الكتاب، الذي لم يجفّ حبر طباعته بعد، يحكي فيه بنيوب، رفقة صديقه عباس بودرقة، كيف شاركا، ضمن كتيبة المرحوم إدريس بنزكري، في حمل المؤسسات الأمنية والعسكرية والإدارة الترابية على الجلوس على كرسي الاعتراف، وكشف حقائق انتهاكات الماضي ومصير الضحايا ومواقع المقابر. كل ذلك تحت غطاء جوي وفّره التزام شخصي للملك الذي كان، حسب الكتاب دائما، يأمر جنرالاته ووزراءه وأمنييه بالاستجابة لمطالب هيئة الإنصاف والمصالحة، والذهاب إلى أبعد مدى في ذلك.

أليس هو أحمد شوقي بنيوب نفسه الذي نبش القبور بحثا عن عظام الضحايا، وأجلس الجلادين المحتملين للاعتراف بأسرار اغتيال المهدي بنبركة، وكشف قصة الدفن الجماعي لضحايا انتفاضة يونيو 1981؟ أبهذه السهولة يتحوّل مشروع تحرير الدولة من قيود الماضي، عبر تطهير سجلّها من أخطاء الأفراد والمؤسسات، إلى انتصار أعمى لروايتها، دون تدقيق في المساطر والمسؤوليات ورصد للتجاوزات التي لا يمكن أن يكون إجماع تقارير الداخل والخارج عليها باطلا؟ أبعد كل ذلك أصبحت الدولة أوهن من أن تتحمّل اعترافات صغيرة بأخطاء وتجاوزات، قد تكون فردية واستثنائية، وليست بالضرورة سياسات ممنهجة تخدش شرعية الحكم، أو تقلل من ولائه للديمقراطية؟

أليس هو الرجل نفسه الذي كان يردّد على مسامع من يلتقونه صدفة أو بعد ترتيب في شوارع العاصمة، أنه لا يبدأ يومه إلا بعد قراءة جريدتين يوميتين تتقاسمان الأكشاك وتتناقضان في الخط التحريري، ليصبح بعد توليه المنصب الرسمي حاملا إحداهما بيمينه ككتاب مقدس، ومشاركا في «خليان دار» الثانية؟

أليس هو الرجل اللطيف صاحب الدعابة المراكشية الذي أهداني نسخة من كتاب «كذلك كان» في باحة المكتبة الوطنية، ملحا على أن أوصلها إلى صاحب افتتاحيات «أخبار اليوم»، توفيق بوعشرين، لأنه فاعل سياسي مؤثر أكثر من بعض الأحزاب؟ أبعد اعتقاله وسجنه أصبح مجرّد متهم بجنحة -لا نعلم كيف تأكد السيد بنيوب من وقوعها- ولا حقّ له في الاستفادة من حماية القانون لحقوقه؟

إن النقد والهجوم ولعن المسؤولين رياضة سهلة، لكن، ورغم كل ما صدر عن المندوب الوزاري الجديد مما حمل أصدقاءه وخصومه، من اليمين ومن اليسار، على اتهامه بـ«قلب الفيستة»، والالتحاق بكوكبة خريجي «مجموعة فندق حسان»، وغير ذلك من الانتقادات؛ أعتقد أن هذا المحامي والحقوقي الكبير وقع في ما جرى لمبعوث القايد في الحكاية الشعبية.

تقول هذه الحكاية إن قوما نظموا عرسا صاخبا في إحدى الليالي، وتسببوا في إزعاج شديد لسكان الحي في وقت متأخر من الليل، فبعث إليهم «القايد» من يأمرهم بإيقاف الغناء والموسيقى الصاخبين.

حين وصل المبعوث وجد الحضور منغمسين في جلبة الرقص والغناء، وراح يبلّغهم رسالة «القايد» مرددا: «قال لكم القايد هداو (كفّوا)». ولأن الصخب كان كبيرا لم يكن بوسع المبعوث إسماع صوته، ليتحوّل نداؤه تدريجيا وبشكل لاشعوري، من كثرة ترديده، إلى لازمة على لسانه، لينخرط في الرقص والغناء مأخوذا بإيقاع الموسيقى مرددا: «قالكم القايد هداو.. هداو هداو هداو…».

وكذلك كان.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي