الفقيه بينبين.. العراف بلال ورؤيا الملك -الحلقة15

19 يوليو 2019 - 22:21

قضى الفقيه بينبين مدة تناهز 31 عاما يشتغل مؤنسا للملك الحسن الثاني.. ابنه ماحي بينبين، اختار توثيق هذه التجربة المثيرة في رواية «مؤنس الملك» التي تمت ترجمتها لعدة لغات.. في هذه الحلقات نجري حوارا مع الروائي والفنان ماحي بينبين، وقصته مع والده، كما ننشر أبرز فصول الرواية.

كان ذلك الحلم كابوسا رأى فيه سيدي نفسه يحمل ولي العهد بين ذراعيه، ويتدحرج من قمة جبل صخري وعر إلى واد من الرمال المتحركة. في ذلك الكابوس المرعب، كان الملك يحمل طفله الباكي، باذلا محاولات يائسة لإنقاذه، ولكن عبثا، فقد كان يغوص في الوحل عاجزا. أثار ذلك الكابوس الملك ارتباكا شديدا في ذهن سيدي. ما عاد يغمض عينيه مرة حتى يرى عرشه في توازن هش، يتأرجح على قضبان عالية ومترنحة، وعلى وشك السقوط. فيفيق من نومه مذعورا، وقلبه يخفق بقوة ووجهه يتصبب عرقا. أثار خوفه من السقوط أرقا شديدا وزاد من سوء مزاجه المتعكر أساسا. قدم إليه محيطه تفسيرات متعددة ومتضاربة وكل منها يلغي الآخر. ومر بقاعة الانتظار القريبة من غرفة الملك عدة معلمين روحانيين، وبصارين مخضرمين، وحتى بعض أشهر المشعوذين. رأى بعضهم في الحلم أن غزو الصحراء مجددا سيكون هدية للأمير لتثبيت دعائم حكمه في المستقبل، فيما فسره آخرون على أنه انصهار للملك بأرض أجداده المكللين بالأمجاد. لكن سيدي الذي كان يرفض التملق رفضا قاطعا، لم يجد في أي من تلك التفسيرات ما يقنعه.

حين سدت الأبواب في وجهنا، وبدأ الاستسلام ينال منا، بقي لدينا ملجأ أخير. كانت الملكة الأم تملك موهبة حل العقد المستعصية. ولما لم يكن متاحا لنا أن نلتقي بها في أروقة القصر، تكلف القائد موحا بالذهاب إلى تلك السيدة الجليلة التي نكن لها إعجابا صادقا. كنا نحب رؤيتها بالقفطان الحريري تأتي في خلال الأعياد لتهنئة صاحب الجلالة. وكنت أتأثر كثيرا بمنظر سيدي منحنيا، يكاد يركع ويقبل يد والدته ظاهرا وباطنا. وغالبا ما يردد (الجنة تحت أقدام الأمهات. ومن يقبل قدمي أمه كل صباح فقد يحظى بفرصة الدخول إلى الجنة).

..حين نجح القائد موحا في ترتيب لقاء بين أفراد الحاشية والملكة، أحالتهم هذه الأخيرة فورا إلى إحدى سيدات قصرها، وتدعى تامو، وهي ساحرة متخصصة في فك رموز لغة الروح. سرى الاعتقاد بأن تلك الكائنة ذات العينين المخيفتين تعلمت من شركائها الشياطين تفسير الأحلام الأشد تعقيدا. ولكن حين علمت بأن الحلم المطلوب تفسيره هو حلم الملك، لم تشأ المجازفة. وأوصتنا باستشارة معلمها، وهو رجل يدعى بلال، يعيش حياة الزهد في مغارة نائية بالقرب من قرية في جبال الأطلس الكبير. كان بلال حكيما صوفيا، معروفا بقدرته على قراءة علامات الغيب والرموز الخفية من أي نوع… كما كان معلما بدون منازع، رفعه أبناء قريته إلى مرتبة النساك، وبنوا له ضريحا في حياته ضريحا تعلوه قبة لاستقبال جثمانه بعد موته.

أخذت الملكة الأم المسألة على محمل الجد، وأرسلت جنودا لإحضار العراف على وجه السرعة. بعد مسير أيام عبر الدروب الجبلية المتعرجة والوعرة، عثر الجنود أخيرا على القرية. تابعوا صعودهم عدة مئات من الأمتار ووصلوا إلى المغارة، ليروا أمامها عالم أعشاب يقوم بحرق بعض النباتات وهو يتلو الصلوات. قادهم موسى، الخادم المخلص للعراف بلال، إلى سيده الذي كان يقرأ الورق محاطا بعشر شموع متفاوتة الطول.

ـ كنت في انتظاركم أيها السادة.

ـ بأمر من الملكة…

ـ أمتعتي وأمتعة مساعدي موضبة. نحن مستعدان للحاق بكم أيها السادة.

تبادل الجنود نظرات خائفة.

وهكذا وجد الرجلان نفسيهما بعد أيام في القصر، في انتظار أن يستقبلهما الملك.

أخرج العراف بلال أوراقه، وفعل يومذاك ما سيفعله لثلاثين عاما مقبلة. تماما مثل عالم الأعشاب موسى الذي لم يوفر جهدا طوال الفترة عينها لسد أنوفنا برائحته الكريهة. أتذكر يوم استقبال بلال للمرة الأولى في مكتب سيدي، وكأنه بالأمس. كان يفترض بالمقابلة أن تدوم ربع ساعة، غير أنها استغرقت فترة قبل الظهر بكاملها. انفرد الملك بالعراف كصديق قديم، من دون أن يتسرب من حديثهما شيء. لم يدر أحد قط بما درا بين الرجلين. غير أن أمرا واحدا كان أكيدا وهو أن سيدي استعاد في الصباح التالي حماسته ومزاجه الصافي، ومنذ ذلك الحين لم يغادر بلال القصر قط. وقد وضع شرطا واحدا لبقائه، وهو ألا ينفصل عن عالم الأعشاب، الأمر الذي قبله سيدي بسرور.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي