عبدالسلام بوطيب: من السذاجة القول إن جميع المسؤولين كانوا مع مسلسل المصالحة

21 يوليو 2019 - 21:01

يونس مسكين -سليمان الريسوني

*رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم، نائب رئيس المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف سابقا.

شكّلت أحداث الحسيمة 2017 ارتدادا بشكل من الأشكال لصراعات الماضي التي عرفتها المنطقة، رغم تجربة الإنصاف والمصالحة. هل يعني ذلك فشل هذه التجربة؟

لن أملّ من التأكيد أن مسلسل المصالحة المسنود إلى قواعد العدالة الانتقالية، مسلسل طويل في الزمن، ومعقد، ويتطلب كثيرا من النزاهة الفكرية والشجاعة الأدبية، والإنصات والإبداع والاجتهاد والصبر، فهو مسلسل محكوم – بطبيعته- بإفراز موانع داخلية وأخرى خارجية، لذا من السذاجة القول بأن كل السياسيين المغاربة وكل المسؤولين المغاربة، كانوا مع مسلسل المصالحة واستمروا يدافعون عنه إلى اليوم.

الكثيرون منهم في مواقع سياسية ومسؤوليات مختلفة كانوا ضد المسلسل، ومازالوا إلى اليوم. ووجود جلالة الملك في صف وعلى رأس مبدعي هذه التجربة، قلل شيئا ما من قوة المناوئين له، ولم يزُلْ أثرهم كلية. إلا أن هذا لم ينقص من التجربة المغربية، فمن العادي جدا أن نجد في كل تجارب العالم من هم مع المصالحة – وهم كثر عادة– ومن هم ضدها، وهم قلة يحمون بعض مصالحهم الحقيقية أو الوهمية. وفي هذا عادة ما يستعملون العامة كـ”حطب  نبيل” لتحقيق أهدافهم، ويمكن لك الرجوع إلى التجارب الدولية في أمريكا اللاتينية أو في أوروبا الشرقية وحتى الغربية (إسبانبا والبرتغال) وإفريقيا، أيضا، (جنوب إفريقيا)… لتتأكد من أن الانتقال نحو الديمقراطية يواجه دوما بعراقيل ومقاومات.. وما حدث في ملف الريف، هو أن الإخوة أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة القائمين عليه آنذاك، ومستشاريهم الكبار تعاملوا معه بنوع من التسرع والسطحية، وبعبارة أقوى بنوع من الاستخفاف.

ما أريد أن أقوله بهذا الكلام، هو أن “احتجاجات الحسيمة وبعض نواحيها لسنة 2017″، إذا أخرجناها من السياق الإلكتروني، إن صح التعبير، هي ارتداد عادي، لا يقل ولا يكبر أهمية عن كل الارتدادات التي عرفتها المنطقة منذ الاستقلال إلى اليوم. وأن تجربة المصالحة مع الريف لم تنجح ولم تفشل، وهي في حاجة إلى تقييم هادئ من قبل المتخصصين والفاعلين الحقوقيين والسياسيين المحليين والوطنيين، خاصة من هم على بينة واطلاع واسع بتاريخ المنطقة والإشكالات التي يطرحها على المهتمين بالذاكرة فيها، وبفلسفة العدالة الانتقالية والتجارب الدولية . وأعتقد أن ما قام به المجلس الوطني، أخيرا، عندما دعا كل الفرقاء إلى طاولة الحوار، على خلفية موضوع العدالة المجالية، خطوة أولية نحو ما أدعو إليه.

 

يبدو التاريخ القريب محكوما بلحظات توتّر وجفاء متكررة بين منطقة الريف والسلطة المركزية، هل يعود ذلك إلى عوامل موضوعية أم لصراع داخل بنية الدولة يرفض استقبال نخبة جديدة؟

قدر هذا الملف أنه يراد له أن يحل خارج الضوابط المنهجية، والضوابط العلمية المتعارف عليها في العلوم السياسية، والمرتكزات الديمقراطية، وهو أمر مستحيل. لذلك، اسمح لي أن أقدم الجواب في صورة أسئلة ذات دلالات متعددة، وهي: ما المقصود بالريف في هذا الملف؟ هل الريف الجغرافي الممتد على طول جبال الريف؟ أم الريف الأنتروبولوجي الممتد، حيث تعيش جماعة بشرية على إيقاع عادات وتقاليد، أم الريف التاريخي الذي يربطه البعض بالمرحلة الاستعمارية، والممتد على ما كان يسمي المنطقة الخليفية، أم هناك ريف آخر لا يوجد إلا في رؤوس من يتحدثون عنه؟

الحقيقة أننا أمام منطقة هُلامية، ولأنها، كذلك، فهي عصية على الفهم، إن لم نقل مستحيلة. لنسجل بنوع من الجرأة العلمية، ولنكن واضحين: الذي يقصد بالريف في هذا السياق، هي المنطقة التي عرفت أحداث 1958-59، وأحداث 1984 وأحداث ما يُعرف، بخلفيات سياسية واضحة بحَراك الريف لسنة 2017. وبين هذه المحطات الثلاث كثير من الإضرابات التلاميذية التي شهدت حوادث ذهبت بأرواح بعض الشباب وأعقبتها اعتقالات واسعة.

هذه الأحداث كلها عرفتها بعض مناطق الحسيمة، وليس كلها، وهي الممتدة على كثير من بلاد بني ورياغل أساسا. صحيح أن منطقة الناضور، كذلك، عرفت أحداث 1984، لكنها لم تعرف باقي الأحداث، ولا حركتها التلاميذية كذلك، وظل حتى المحيط القريب من بني ورياغل غير متأثر كثيرا بما يقع. لذا لا مجال هنا للحديث عن توتر بين الريفيين والسلطة المركزية، ولا حتى بين بني ورياغل والسلطة المركزية. فالرجل الرابع اليوم في الدولة المغربية “ورياغلي”، ومن هذا التاريخ الذي أتحدث عنه هنا، وكثير من نساء ورجال الريف المنتمين، كذلك، إلى هذا التاريخ هم من رجالات الدولة الكبار، ومن أهم النخب السياسية والإدارية. لذا، علينا أن نتحدث عن مجموعة بشرية تشكو “تاريخيا”، وبطريقتها الخاصة من غياب العدالة المجالية، ولا تعرف كيف تعبر بدقة عن مطالبها، ولا كيف تأخذها، والتجأت إلى رفع صور لرموزها وكل ما يحيل على “فرادتها”، معتقدة أن ذلك شكلا من أشكال الضغط، وقد جوبهت بالطريقة التي جُوبهت بها، وهو تعامل في جل الأحيان لا نجد فيه تناسبا بين الفعل والقوة المستعملة، مما عسّر انخراطها “النشيط” حتى في مسلسل المصالحة معها. نحن إذًا أمام ظاهرة اجتماعية – سياسية تستوجب الدراسة الدقيقة والتعامل الذكي فقط، لأن الملف في ذاته ليس معقدا كما يتصور البعض، ولا صعبا في ذاته، لكن ما جعله “معقدا” و”صعبا”، هو كثرة المنتفعين منه، القدامى والجدد، والراغبين في استمراره لأنهم ينتعشون بما يسمونه أزمة.

 

بعد تجربة الإنصاف والمصالحة، جاء حزب الأصالة والمعاصرة كهيئة سياسية ضمت جزءا من نخب منطقة الريف، لماذا أصبح هذا الحزب جزءا من المشكلة عوض أن يحلها؟

مرة أخرى علينا أن نتسلح بالمنهجية العلمية التي تفرضها منهجية العدالة الانتقالية للإجابة عن هذا السؤال، والحقيقة أن ما سأذهب إليه هو نوع من مغامرة منهجية تستوجب تعميق البحث والنظر فيها مستقبلا. منهجيا، كان من الضروري أن تفرز التجربة المغربية في الإنصاف والمصالحة مؤسسة حزبية من مهامها إعادة ترميم المشهد الحزبي، الذي خربته سنوات الصراع التناحري، المعروف بـ”سنوات الرصاص”، ومهام هذه المؤسسة الحزبية كان هو إعادة الحياة إلى الأحزاب حتى تلعب أدوارها الطبيعية المنوطة بها.

للأسف، الأمور لم تمر هكذا، لقد تم توليد هذه التجربة قبل وقتها بقليل، فيما يشبه الولادة القيصرية للمرأة التي أصيبت بارتفاع حاد في الضغط الشرياني الذي يرافق عادة المراحل المتقدمة من الحمل، وتم الزج بهذا المخلوق الحزبي الجديد في مسالك لم يولد من أجلها، فضلا عن خنق شرايين أطرافه عن سبق إصرار وترصد، وحشو جسمه بمواد كيميائية/ بشرية مسرطنة، حتى أصبح في حالة الإمبراطورية العثمانية عندما أطلق عليها الغرب “الرجل المريض”. وتفاقم مرض هذا الوليد عندما لم تستطع قيادة الحزب استيعاب هزيمتها في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وبدأت “اللخبطة”. وهي “لخبطة” انعكست على كل المواقع القوية للحزب ومن بينها الريف. وعندما تكون المؤسسة ضعيفة، فلا تنفع قوة الأفراد مهما كانت، وإن نفعت فلمدة قصيرة.

هذا التشخيص العام للحزب وأهدافه ومآله لا ينفي حقيقة مؤكدة، وهي أن الحزب لم يشكله أبناء الريف فقط، ويمكنك العودة إلى هيئاته وأعضائه الذين ستجدهم ينتمون إلى كل ربوع المغرب من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، لكن هناك من يود، لأهداف يعلمها هو، ربط الحزب بالريف وبالريف فقط. وهم الذين يريدون السيطرة عليه اليوم، خارج الشرعية والقانون وبنفسٍ عنصري مقيتٍ سيؤدي الوطن ضريبته على المدى المتوسط.

 

جاء ملف معتقلي الحراك الأخيرة ليضيف عقدة جديدة بين السلطة المركزية وهذه المنطقة، هل يكفي حلّ هذا الملف لقيام مصالحة شاملة ونهائية؟

ملف معتقلي “الريف” ملف معقد جدا، لأننا عندما نتحدث عنه من الضروري أن نستحضر ضرورة احترام أحكام القضاء، أن نستحضر هيبة الدولة وقوتها المسنودة إلى القانون، وأن نستحضر كرامة المواطنين، وكرامة المواطنين هي الأولى لأن الباقي وجد من أجل ذلك، لذا فهذا الملف يحتاج إلى معالجة تستحضر كل الجوانب التي ذكرناها سابقا، مع ربطها بجبر الضرر الجماعي الذي نقصد به تنمية المنطقة وفق روح توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، لأن الكثير من المواقف التي تبدو سياسية في مظهرها أسبابها في العمق اجتماعية واقتصادية. نقول ذلك لأن لنا الثقة في الذكاء الجماعي لمكونات بلادنا مسؤولين ومواطنين، وأن هذا الملف سيكون مدخلا لمعالجة الكثير من الاختلالات، وأنه لن يكون عقدة جديدة إذا ما ابتعد عنه أولئك الذين يقتاتون من الأزمات، ويعيشون بها. لذلك، اسمح لي أن أقول إن حديثك عن مصالحة شاملة ونهائية فيه الكثير من الأحكام المسبقة لأنه يعني أن هناك مصالحة غير شاملة وأولية، والواقع أن هناك مشاكلَ حقيقية بالمنطقة اجتماعية واقتصادية وسياسية وديمغرافية، فالقاعدة الشابة لساكنة المنطقة تتوسع وتكبر، والمستوى الدراسي لهؤلاء يتوقف سنوات قليلة بعد الانطلاقة، لكنها لم تصل إلى مرحلة القطيعة، لأن الريف وأهل الريف جزء من هذا الوطن يحدث لهم ما يحدث في كل الأسر الممتدة من سوء الفهم، الذي ما يلبث أن يصبح تاريخا يُحكى بمراراته وانكساراته، لكن بآماله أيضا.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي