الإدريسي: قال لي السفير «عندما تغير تفكيرك لن أكون بحاجة إليك»

23 أغسطس 2019 - 18:20

من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجة والجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. فـ«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة.

 

 

وماذا بعد زهدك الأخلاقي في دول الخليج، وفشل مساعيك في المغرب؟

يقول مثل مغربي «إذا اتْلفت اجلس اللّارض»، ولا تغضب أو تنفعل بشدة، لكي تستطيع أن تعرف ما حولك، لكي تحدد بهدوء معالم طريقك، ولا تجعل من وضعك الآني كل همك بسبب ما أنت فيه، وحاول أن تنظر إلى الأفق الأوسع، الذي يمكن أن يرشدك إلى وجهة لم تكن في حسبانك.

فعلا، ففي جلسة مراجعتي الهادئة لمسيرتي ولخططي المستقبلية، واصلت التدريس في الجامعة الجزائرية مرتاح الضمير. ثم رحت أستأنس بكتابة بعض المقالات في الصحافة الجزائرية، خاصة في جريدة «السلام» اليومية، التي ظهرت إثر الانفتاح الإعلامي نتيجة لأحداث 5 أكتوبر 1988 بالجزائر، قبل أن يتوقف صدورها في أواسط التسعينيات. كانت تلك الكتابات أو المقالات تتناول التاريخ السياسي والثقافي للمغرب الوسيط خاصة. وكنت أركز على المرحلة الموحدية، التي عرفت فيها أقطار المغرب الممتدة من السلوم إلى طنجة، ومن أقصى الصحراء إلى جبال البريني بإسبانيا، الوحدة الفاعلة أول مرة في تاريخها السياسي انطلاقا من إيديولوجيا ذاتية، كما كانت مقالاتي تتناول كذلك عوائق البناء المغاربي المشترك، وآراء حول سبل تجاوز العثرات التي صاحبت نشأة الدول الوطنية.

وأنا مستغرق في عملي وفي التفكير حول الآفاق الممكنة للرقي بحالي، وصلتني في يوم من ربيع 1990 دعوة من سفير المغرب بالجزائر إلى زيارته. وكانت العلاقة الدبلوماسية الكاملة قد استؤنفت بين البلدين، عقب مؤتمر القمة العربية بالجزائر سنة 1987، ثم تطورت أكثر بعد إعلان قادة الدول المغاربية الخمس قيام «اتحاد المغرب العربي» في 17 فبراير 1989.

حمل إلي الدعوة المستشار الأمني للسفارة، السيد مصطفى الحسوني، وقد كان بيننا تواصل سابق، فكلانا ينتمي إلى ضاحية من ضواحي الحسيمة، وكان لدينا اهتمام مشترك بالتاريخ التحرري للريف والشمال، وبفكر عبد الكريم الخطابي، وكان محبا للكتاب.

تساءلت مع نفسي عما يمكن أن يكون وراء دعوة السفير، السيد عبد القادر بنسليمان، إلى الالتقاء به في إقامته وليس في مقر السفارة. ومهما تعددت تساؤلاتي واحتمالاتي حول سبب الدعوة؛ إلاّ أنني وجدت بعض عزائي المؤقت في شعر طرفة بن العبد القائل:

«ستُبْدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً * ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوِّدِ

ويأتيكَ بالأنباءِ من لم تَبعْ له * بَتاتاً ولم تَضْربْ له وقتَ مَوْعدِ»

وما هي أخبار دعوة السفير التي لم تزود بها من قبل؟

رافقني في مقابلة السفير السيد مصطفى الحسوني، المستشار الأمني للسفارة. وكان لكل منا، السفير وأنا، دواعيه، بلا شك، لحضور المستشار الأمني اللقاء. كان الترحيب من السفير جيدا، مشيدا في الوقت نفسه بكتاباتي المنشورة على صفحات جريدة «السلام» الجزائرية، وذكر لي أنها كانت سبب تعرفه على شخصي، وسبب الرغبة في الالتقاء بي. وأشار إلى أن دبلوماسيين من السفارة، والقنصل العام بالجزائر أفادوه، حين سألهم عن شخصي، بأنني من المعارضين المغاربة بالجزائر. «لذلك –يقول- توجهت إلى المستشار الأمني، فأخبرني بأنه يعرفك، وبأنك ابن بلدته». دام الحوار بيننا، بعد التعارف، حوالي ساعتين من الزمن.

هل مازلت تتذكر أهم ما دار حوله حوارك مع السفير؟

أتذكر أن أهم سؤال وجهه إلي السفير، في البداية، كان عن مدة غيابي عن المغرب وعن سببه، وعن انطباعاتي التي عدت بها من المغرب بعد ذلك الغياب؟

قررت منذ البداية، وبعد استئذان السفير، أن أتحدث معه بكل نزاهة ممكنة. فقلت له: «دام غيابي المتواصل 18 سنة، ومازال مستمرا بصفة متقطعة. أما سببه فكان «نضال الشباب» في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والاتحاد الوطني للقوات الشعبية». وبادرني بالسؤال: «وكيف وجدتَ المغرب بعد هذه المدة؟»، فصارحته بوقائع لا تختلف عما ذكرته في الحلقات السابقة من هذه الذكريات. ثم أضفت: «حين غادرت المغرب كان عمري 19 سنة تقريبا، وتركت ورائي مملكة واحدة وملكا واحدا، وعندما رجعت اكتشفت وجود مملكات وملوك كثيرين، وبحثت عن ملكي فلم أجده»، وعلق على جوابي قائلا: «ها أنت أصبحت تعرف المغرب جيدا»، ثم أوضحت له أنني حاولت أن أستقر في بلدي بعد هذا العمر، لكني فشلت بسبب عدم وجود ولي يرعاني ويزكيني مقابل الامتثال لتعليماته ولإملاءاته. وزدت: «ربما كنت ضحية اختيار حريتي في ممارسة حياتي منذ أن نضجت أفكاري أكثر».

تواصل الحوار عن اهتماماتي الثقافية وعن عملي في جامعة الجزائر، وعن مكانة المغرب الفكرية والثقافية في الجزائر، وعن رؤية الجزائريين، ومنهم الطلبة والجامعيون والإعلاميون، عن الساحة الثقافية المغربية. فأوضحت له أن طلبة جزائريين، وكذلك أساتذة جامعيين، ينظرون إلى المفكرين المغاربة، من أمثال العروي والجابري والخطيبي وطه عبد الرحمان، بكثير من التقدير لمواقفهم الفكرية. أما الإعلاميون والصحافيون، فغالبيتهم أشبه بأسلافهم من شعراء المديح والهجاء، كما هو الشأن في المغرب وفي جميع الدول العربية.

وهل بدأت أخبار الدعوة تتضح لك أثناء هذا الحوار؟

شكرني السفير على صراحتي ووضوحي في عرض آرائي ورؤاي بشأن كل ما دار حوله النقاش، دون أن تتضح لي الغاية الكاملة من الدعوة، قبل أن يواصل كلامه قائلا إن السفارة في حاجة إلى مستشار ثقافي يساعده في تنمية العلاقات الثقافية بين المغرب والجزائر، بعد انقطاع دام حوالي 15 سنة. وأوضح أنه لا يقدر على القضايا الثقافية كما يقدر على تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية؛ «فأنا -يقول السفير- كنت وزيرا للمالية والاقتصاد، لذلك، توجهت إلى السيد عبد اللطيف الفيلالي، وزير الشؤون الخارجية والتعاون، لأطلب منه تعيين مستشار ثقافي في الجزائر يساعد السفارة في عملها الناجع، وعرضت عليه بروفيل Profile المستشار الثقافي الذي أريده، فما كان من الوزير إلا أن نصحني بالبحث عن هذا البروفيل في الجامعات وليس في وزارة الخارجية».

أفاد السفير بأنه كاتب بالفعل بعض رؤساء الجامعات المغربية في الموضوع. ثم علق قائلا: «حين عدت إلى الجزائر، استرعت انتباهي مقالات علي الإدريسي، التي وجدت فيها بعض مبتغى السفارة في الجانب الثقافي، وأنا الآن، وبعد هذه الجلسة الثرية، أقترح عليك، ودون إحراج لك، أن تتولى مهمة المستشار الثقافي في السفارة».

كان الاقتراح مفاجئا لي بجميع المقاييس، لكني بادرت إلى القول: «ليس من أخلاقي أن أرفض خدمة بلدي، خاصة في المجال الذي أزعم أنني أمسك ببعض خيوطه، غير أن هناك بعض العوائق في الطريق». فقال لي: «أوضح قصدك». قلت له: «ذكرت في بداية هذا اللقاء أنك تعرفت علي من خلال بعض كتاباتي، وأنك حين سألت عني قيل لك إنني من المعارضين، فهل عندما أصبح في السفارة يكون مطلوبا مني تغيير طريقة تفكيري وتحليلي للأشياء والظواهر السياسية؟»، فكان جوابه كالتالي: «عندما تغير تفكيرك لن أكون بحاجة إليك». قبل أن يضيف قائلا: «إنني، في سنة 1963، كنت مسؤولا في سفارة المغرب بباريس، حين تقدم إلي الطالب الباحث، عبد الله العروي، بطلب العمل مستشارا ثقافيا في السفارة، فوافقت على طلبه، رغم الاختلاف الإيديولوجي الكبير بيني وبينه، وبقينا أصدقاء إلى اليوم. أما قضية المعارضة، إن وجدت فعلا، فليست ممنوعة في دستور المغرب، ولا تحرم أي إنسان من المشاركة في خدمة وطنه».

ذكّرت السفير، في الوقت نفسه، بخيباتي المتكررة في الالتحاق بالجامعة المغربية أستاذا، وقلت له: «يكون من الأفضل أن أكون مستشارا ثقافيا لدى السفارة منتدبا من الجامعة». وظهر على محياه التفاعل مع الفكرة والاقتراح، ووعدني بطرح الموضوع على وزير التربية، الدكتور الطيب الشكيلي، الذي سيصل قريبا في زيارة للجزائر.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي