حلف الفساد والاستبداد

26 أغسطس 2019 - 18:00

ونحن نحاول تلمّس الطريق المؤدي إلى الخروج من المأزق الجماعي الذي نغوص فيه حاليا، نكثر أحيانا من تعقيد التشخيص وسلوك الدروب الملتفة التي تدخلنا فيها النقاشات العبثية؛ فيما تكفينا العودة إلى أرشيف المسيرات الشبابية البسيطة والعفوية التي خرجت قبل ثماني سنوات إلى شوارع المغرب، لنجد أن دستورنا الجديد خرج من رحم شعار وجيز مفاده «سقوط الفساد والاستبداد».

لم يترك لنا شباب العشرين من فبراير أي مجال للتيه. لقد وضعوا أمامنا جميعا وصفة بسيطة وواضحة، عنوانها الملكية نظاما سياسيا يجمع بين الشرعية والقدرة على ضمان الوحدة واللحمة الوطنيتين، والديمقراطية خيارا في الحكم، وقطع دابر الفساد والاستبداد.

هذه العبارة هي أكثر ما يقترب من حقيقة العطب، عكس العبارات الالتفافية التي نرددها، من قبيل زواج المال والسلطة، لأن الزواج في الحقيقة يظل أمرا شرعيا، في حين لا يحدث هذا اللقاء بين المال والسلطة إلا لينتج سفاحا أجنة للفساد والاستبداد. وحتى لا يبدو الأمر كما لو كان تحليقا في سماء التنظير الأجوف، دعونا نستمع إلى أربع شهادات؛ اثنتان منها صاحباهما معلومان، بل قفزا في الأيام الأخيرة بقوة إلى الواجهة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ليعرّفا لنا، بدقة وبساطة، معاني الريع والاستعباد الرأسمالي، واثنتان أخريان أحتفظ بهويتي صاحبيهما مجهولتين، وتكفينا منهما العبرة، حتى نفهم كيف يولد تحالف الفساد والاستبداد:

الشهادة الأولى: شريط فيديو شهير يظهر فيه الخبير الاقتصادي الراحل، إدريس بنعلي، متحدثا في لحظة ذروة احتجاجات الربيع العربي، معرّفا الريع الذي يعرفه المغرب وعلاقته بالاستبداد. الراحل، وهو يتحدث تحت ضوء خافت خفوت صوته، قال إن المغرب يعاني هيمنة اقتصاد الريع، وإن زوال هذا الورم يتطلّب وجود قوة ضغط سياسية من المجتمع. «لهذا، الديمقراطية أساسية لأنها تنبني على فكرة السلطة والسلطة المضادة لكي توقف الحكم عند حدوده، وها نحن نرى في جميع الدول التي وقع فيها ما وقع، سواء تونس أو مصر أو ليبيا، كيف أن الحكام دارو ما بغاو في الأموال العامة ولم يجدوا من يحاسبهم». هذا الوضع يجعل من يصل إلى الحكم، حسب بنعلي، يعتبر السلطة ملكا له، ولا ينتبه إلا إلى عائلته ومسانديه، «وهنا نسقط في اقتصاد الريع، أي أشخاص يتلقون دخلا دون أن يخلقوا قيمة مضافة، لا ينتجون، أو كما يقال بالفرنسية يصبحون parasites، عايشين على ظهر الآخرين… من يدفع الضرائب في المغرب هم المأجورون، الباقي لا يدفعون، حيث لا وجود لاستقرار سياسي وتماسك اجتماعي دون طبقة وسطى قوية، وهو ما لا يتحقق باللجان الاستشارية، بل يتطلب قوة ضغط».

الشهادة الثانية: مقطع فيديو يتضمن حديثا لعمر أكتوف، الخبير الاقتصادي الجزائري-الكندي، يتحدّث فيه عن خطر تحويل المؤسسة التعليمية إلى أداة لتخريج خدام المنظومة الصناعية المتوحشة. يتعلّق الأمر، حسب أكتوف، بخطر تحويل المدرسة والتعليم عموما إلى آلة لصنع كائنات لا همّ لها سوى خدمة المنظومة القائمة والسوق بشكله الحالي، دون أي قدرة على التفكير والنقد. «هذا ما نسميه بالقابلية للتشغيل employabilité وتكوين أشخاص قابلين للتشغيل، وهو ما يقع عبر تحويل التعليم، من الابتدائي إلى الجامعي، إلى وسيلة لتخريج أشخاص قادرين على إيجاد موقع لهم في شوق الشغل، وهو أمر فظيع. هل اليوم شخص مثل فيكتور هيغو أو سقراط… قابل للتشغيل؟ طبعا لا، وبالتالي، لن ننتج من يشبههم، فكيف ستصبح البشرية دون سقراط وأرسطو وفيكتور هيغو… دون أمثال هؤلاء سوف نصبح حيوانات، إن نحن لم ننتج شعراء وأدباء ومختصين في الرياضيات والفيزياء النظرية، أي أننا لن ننتج إلا من يخدمون الآلة التي تضاعف المال».

الشهادة الثالثة: التقيت أخيرا مقاولا شابا يسيّر شركة صغيرة في مجال خدماتي. ما إن سألته عن سبب استمراره في شراء مادة أولية مهمة في نشاطه بدل استيرادها مباشرة، حتى بثني شكوى مثقلة بالدلالات: «تصوّر أنني حاولت مرة الاستيراد مباشرة، لكنني واجهت عراقيل وحروبا وابتزازات من جميع الأطراف المعنية بمسطرة الاستيراد، كما لو أنني أقدمت على محظور، وفهمت حينها أنني دخلت مجالا محرما»، يقول هذا المقاول، مضيفا بمرارة كبيرة: «لقد استسلمت فورا للوضع، لكنني أريد فقط أن أفهم كيف أضطر أنا إلى دفع ضرائب عن كل حركة أقوم بها، وأشتري التعليم لأبنائي والعلاج من المصحات الخاصة، فيما الممون الملياردير الذي يزودني بحاجياتي يمارس عمله خارج القانون في واضحة النهار، فلا يمكنني أن أعطيه شيكا ولا أن أحصل منه على فاتورة، وفي الوقت الذي يتنقّل فيه هو عبر «رانج روفر» ويستعمل بطاقة «راميد» ليعالج مجانا، أدفع أنا ضرائب إضافية بسببه».

الشهادة الرابعة: صديقي مختص في الاقتصاد ويجمع بينه وبين السوسيولوجيا، وهذه فئة من الأشخاص تثيرني قدرتها على التحليل والتفكيك وربط الحقول المعرفية ببعضها البعض. ونحن نتبادل أطراف الحديث سألته لماذا تبدو السلطة عندنا كما لو أنها تتعمّد بعث رسالة مفادها أن من يرتكبون الفساد ويعبثون بالمال العام ومصالح المواطنين سوف لن يعاقبوا، وقد رأينا ذلك في مناسبات عديدة، خاصة مع صدور تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وتفجير قضية خدام الدولة و«عطيني نعطيك»، واستيلاء الخازن العام للمملكة على أرض للدولة وتسخيرها في مشروع باسم أبنائه… أجابني صديقي كما لو أنه حضّر الجواب بشكل مسبق وبعد تفكير طويل: «طبعا لن يعاقبوا، فالسلطة عندنا قائمة على منطق الخدمة، أي أنها محتاجة إلى كفاءات وعقول وأطر لخدمتها، مادام التنخيب لا يقع بطريقة ديمقراطية. والسبيل الوحيد لإغراء النخب واجتذابها لتحمل المسؤوليات وخدمة السلطة هو هذا «الوعد» الضمني بإطلاق اليد، وتخويلها الاستفادة من امتيازات وثروات تفوق بكثير ما يسمح به القانون، وإلا فلن يأتي أحد لخدمتها، وسيصبح الجميع معارضين بالضرورة».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي