منير أبو المعالي يكتب.. ليبرالية خطرة

03 أكتوبر 2019 - 18:00

يعتقد الليبراليون المغاربة، وهم خليط مكون من اليساريين المحبطين، والمثقفين المضللين الذين عادة لا يختلفون عن مقدمي الخدمات، وأتباع اليمين المجرد من محافظته، والأشخاص المتحدرين من الطبقة المتوسطة ممن ليست لديهم سوى أفكار مشوشة عن أنفسهم، أن استراتيجيتهم في معركة الحريات الفردية يمكن حسمها دون استعمال قوة مفرطة.

لا حاجة إلى مظاهرات كبيرة، كما ليست هناك ضرورة للوصول إلى البرلمان أو السيطرة عليه بشكل أو بآخر. تتقلص مساحات الحرب بشكل درامي حتى يصبح الرهان مجرد احتلال قرية، أو الاغتيال المعنوي لبعض الشخصيات حتى تضع الحرب أوزارها. إن الليبراليين معتادون على الهزائم في الحروب الإيديولوجية، وليست لديهم أوهام؛ لكنهم يملكون القدرة على تحويل أصواتهم الخافتة إلى هدير عشوائي، وغير منظم، لكنه فعال بشكل مؤقت في إثارة الانتباه إلى مصدره. يلاحظ ذلك في دعاوى النائب البرلماني عمر بلافريج. فهو واحد من نائبين اثنين، يشكلان كتلة ضئيلة في البرلمان بالكاد يسمع لها صوت، لكنها تنجح في أن تكسب لنفسها الزخم الضروري في معارك الحريات الفردية. وفي الواقع، لا يمكن أن يحقق هذا اليسار فائدة من الناحية العملية سوى بالاستناد إلى أكثر الموضوعات حساسية، سواء كان الأمر يتعلق بالحريات الفردية، أم بميزانية القصر الملكي. وبالنظر إلى المقدرة العددية الضعيفة لكتلة اليسار في البرلمان، فإن الجدوى المؤسساتية من هذه الاستراتيجية تبقى محدودة للغاية. يحاول اليسار تعليم الناس، لكنه، بكل غرور، يحاول أن يجعل من العملية مجرد تلقين إلزامي في مجتمع غير مستعد لذلك البتة.

في المعارك السياسية، تُختار الأهداف بعناية، لكن عادة ما يخطئ الفاعلون في بناء الاستراتيجيات المناسبة. ولقد كان التقييم القديم لوسائل الحرب الموجودة، قد أدى باليساريين إلى القبول بحلف تكتيكي جمعهم بما يسمى بالتيار المتنور في السلطة، ولقد سقط ذلك الحلف سريعا بمجرد ما انتهت حرب مدونة الأسرة، وغطت السماءَ بينهما سحب «حرب باردة»، لكن اليساريين لم يستطيعوا أن يتخلصوا من شروط ذلك الحلف، فيما أدارت السلطة الظهر للكثيرين منهم دون شفقة. ومع ذلك، مازال هناك أمل، لدى اليساريين والليبراليين معا، في تجديد هذا الحلف باستعمال الوسائل السياسية الأكثر هشاشة لدحر عدو مشترك ليس سوى حزب العدالة والتنمية.

لا يوجه الليبراليون سهامهم إلى المجتمع، وهو محافظ على وجه عام، أو غير مبال بالصيغ ما بعد الحداثية لنظم التفكير والسلوك الغريبين عنه. بدلا من ذلك، يترسخ الاعتقاد بأن المشكلة محصورة في الممثلين السياسيين للمجتمع المحافظ، أي الإسلاميين الذين قاوموا أي تمدد لليبراليين فوق القوانين التي تضبط المجتمع. يرى الليبراليون أن إمكانية التغيير عبر نصوص القانون أكثر يسرا من خوض معركة حقيقية على الأرض.

ولكن، وهم يفعلون ذلك، فإنهم يصوبون فقط على هدف قصير. يمثل البيجيدي، بالفعل، مشكلة بالنسبة إلى الليبراليين، غير أنه ليس بمشكلة عويصة، فهذا الحزب أثبت، خلال ولايتين حكوميين، أن محافظته مقبولة حتى بالنسبة إلى نظام الحكم، فهم كما أراهم، باعتبارهم محافظين ليبراليين، يمتلكون مرونة مميزة، مثلما هو حال أي يمين وسط، لكنها مرونة لا تسمح بالاستسلام للدفع الخفيف لليبراليين نحو التحول بشكل كلي إلى ليبراليين دون حدود.

وإذا كان الليبراليون يهدفون، بواسطة استراتيجيتهم، إلى تغيير حالة «البيجيدي» باعتباره خصما، بإطلاق مبادرات ترمي إلى جعله يدرك أن المؤسسة التي يديرها غير عقلانية، فإنهم، بكل استعلاء، لا يشعرون بأنهم مجبرون على الاعتراف بأن أفكارهم ليست مقبولة على نطاق واسع. وفي نصف دورة، يستطيع الليبراليون أن يخادعوا الناس باستثمار الخوف للحصول على الموافقة؛ وهم يفعلون ذلك في قضية الإجهاض، كما العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، ويخترعون معجما مفاهيميا وقائيا يدفع بعض الناس إلى الاعتقاد بأنهم مواطنون في باريس.

يملك الليبراليون صورة واضحة عن ساحة الحرب، لكنهم يتجاهلونها، ويعرضون، بدلا عن ذلك، ساحة حرب غير حقيقية. وفي بعض الأحيان، يجري التركيز على حسم الحروب بطريقة الاغتيالات؛ إذا كانت القاعدة في المجتمع تبعد نفسها عن أفكار الليبراليين، فإن الوسيلة العملية، كما يرونها، هي أن تساق القاعدة رغم أنفها إلى حيث يريدون، وهذه صيغة عمل يسارية قديمة لم تقدم أي نتائج مفيدة سابقا. لكن تحليلا أفضل للمخاطر قد يقوض هذه الرغبات الجامحة في تغيير القوانين؛ إنك حتى لو حصلت على نص تريده، فإنك لا تعرف ما ستنتهي إليه المعارك الموالية. يشبه ذلك الفرق بين النجاح في الغزو، والإخفاق في الاحتلال.

إن المعضلة هي هذه؛ إذا كان الليبراليون يبدون لكم كثيرين، فإن سبب ذلك أنهم يتحدثون أكثر، ولأنهم يعكسون ثقة غريبة في النفس، وكأنهم كائنات لا تحتمل خفتهم، وليس لأنهم على قدر كاف من القوة. الليبراليون لا يفوزون بالانتخابات، وأغلب النواب من كيانات تبدو ليبرالية ظاهريا، ممن يحصلون على مقاعدهم في البرلمان، هم أشخاص محافظون، ويملكون ناخبين محافظين. تبعا لذلك، من النادر أن تجدهم يساندون نصا ليبراليا.

المنطق الليبرالي لا يقود بهذه الطريقة سوى إلى النكسات. لا يستطيع اليسار بناء مجد على حطام استراتيجيات بالية، وعلى الليبراليين الذين يبدون مشتتين وبالكاد تجمع بينهم عرائض لا تتجاوز التوقيعات فيها بضعة آلاف، أن يتوقعوا حصد خيبة أمل جديدة.

يمكن، بشكل ما، وبالاعتماد على الوصفة الغريبة لحلف غير متجانس، وغير مخلص لبعضه البعض، ومغرق في الميكيافيلية، أن ينجح الليبراليون في تدمير هدف قصير المدى مثل حزب العدالة والتنمية. لكن بتحطيمه، فإننا سنفقد صلة الوصل بين المحافظين الأكثر تشددا، والأكثر عددا دون شك، وبين الليبراليين الأقل التصاقا بالأرض. العدالة والتنمية ليس سوى قرية صغيرة في مساحات شاسعة يغطيها المحافظون. وعلى اختلاف أنواعهم، يستطيع المحافظون ربح أي معركة، ولقد لاحظنا ذلك في التنديد الواسع بمطالب بلافريج بشأن الحريات الفردية، وأولئك لم يكونوا أعضاء من حزب العدالة والتنمية في نهاية المطاف. الخطأ في التصويب على الهدف، وعدم القدرة على تقييم صحيح للوسائل والمقدرات، يقود إلى نتيجة واحدة: الخسارة.

الليبراليون، في نهاية التحليل، لديهم طريقة مثيرة للمخاوف لتفسير الظاهرة الاجتماعية، ولأنهم عاجزون عمليا عن المواجهة بأشكالها الطبيعية، فإن الجميع يلاحظ كيف يستخدمون أكثر المناورات تفاهة، مثل أن يهب اليساريون والليبراليون، كل مرة حمي فيها وطيس معركة -وغالبا على الشبكات الاجتماعية- حول موضوعات الحريات الفردية، لحث أجهزة الأمن على التصرف. وفي الواقع، فإن الليبراليين لا يستطيعون فعل شيء إزاء المحافظين إلا إن كانت ظهورهم مسنودة برجل سلطة أو شرطي. بهذه المعاني، تكون هذه الليبرالية المزعومة خطرة على نفسها، كما على الجميع.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي