جمال بودومة يكتب: «الحرب الباردة»

19 نوفمبر 2019 - 14:16

لا أقصد «الحرب الباردة» التي يتحدث عنها الجميع هذه الأيام بمناسبة مرور ثلاثين عاما على سقوط جدار برلين،بل حربا باردة أخرى، نسبة إلى البرد في درجاته القصوى، تدور رحاها في بعض المناطق المغربية النائية منذسنوات، دون أن يستطيع أحد إيقافها، رغم الضحايا والخسائر التي تخلفها في كل موسم.

في الوقت الذي يتهيأ فيه للبعض للذهاب إلى إيفران للتمتع بالثلج وأخذ صور مع ندفه البيضاء، يستعد آخرون إلىخوض معركة حياة أو موت مع الصقيع، وتقديم قرابين جديدة لفصل الشتاء، في معركة مستمرة منذ أعوام طويلة

وراء بياضه البريء، يخفي الثلج وجها بشعا لا يعرفه إلا البؤساء الذين يعشون خارج التاريخ والجغرافيا، وبمنأى عنحسابات الدولة، حيث يتحول الصقيع إلى وحش يعيث فسادا في الأرض ويحصد الأرواح، بلا شفقة أو رحمة، رغمالشعارات و»المستشفيات الميدانية» التي تقام دائما بعد فوات الأوان

ولا أعرف متى ستقتنع السلطات أن المغاربة الذين يعيشون في المناطق التي تنزل فيها الحرارة درجات تحت الصفر،يحتاجون إلى مساعدات استثنائية في فصل الشتاء، مثل تلك التي تمنح لسكان الأقاليم الصحراوية مثلا، كييتمكنوا من مقاومة  البرد، لأن وضعهم استثنائي، وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم مرادف لـ»عدم تقديم مساعدةلشخص في خطر»؟!

 بدل الانشغال بهؤلاء البؤساء يفضل الجميع التفكير في إيفران، ببيوتها القرميدية وفنادقها المكيفة وجوّها الأوربي، يتسابقون على الذهاب إليها في العطل، من أجل التزحلق والتقاط  صور قرب الأسد الذي يقف ببلاهة وسط المدينة،وقد كست رأسه الضخم ندف بيضاء، وحدهم الفقراء يعرفون الوجه القاتل للثلج. غير بعيد عن محطة التزلج وجامعةالأخوين وفندق ميشليفن، الذي تكلف الليلة فيه أكثر من خمسة آلاف درهم، يعيش أشخاص لا يملكون أبسط الشروطلاستقبال ضيف مجرم، لا يتردد في ارتكاب أبشع الجرائم، دون أن يفرق بين الشيخ والمرأة والطفل والمريض. كثير منالعائلات في المنطقة تعيش على الرعي، وبعضهم من الرحل الذين ينامون تحت خيام بسيطة، ولنتصور معاناتهم فيهاته الأيام العصيبة، حيث تصل الحرارة درجات تحت الصفر، وتقل الموارد ولوازم الحياة، وتنقطع الطرق المؤديةللمراكز الحضرية من أجل التسوق والتزود بالمستلزمات الضرورية للعيش. دون الحديث عن المشردين وعابريالسبيل ومن لا يملكون مأوى، الذين ينفقون مثل حيوانات، دون أن تخسر عليهم الدولة أكثر من شبر تراب في مقابربعيدة.

نحن الذين عشنا في «العصر الجليدي» نعرف حجم المأساة. نتذكر معاناة الأسر الفقيرة لتوفير حطب التدفئة كيلا يموت أفرادها من البرد. ميزانية إضافية تثقل كاهلها كل عام بالتزامن مع الدخول المدرسي. الدولة لا يعنيها ذلك،لم تفكر يومًا في وضع نظام دعم أو مساعدة لفائدة مواطنين يخوضون معركة مصيرية مع الطبيعة. وزارة التربيةالوطنية لا تصنع شيئا لتأمين الدراسة وسط هاته الظروف القاسية، إذا أراد التلاميذ مواصلة التحصيل، عليهم أنيجلبوا الحطب من بيوتهم لتدفئة الفصل. يحمل التلميذ محفظة في يد وعود حطب في الأخرى ويأتي للمدرسة. أياديالأطفال تظهر عليها نتوءات زرقاء بسبب البرد، والدموع تتجمد على الخدود،  وكثير من الأمراض المزمنة تتسلل إلىالأجساد النحيلة في وقت مبكّر. في الوقت الذي ينعم به المحظوظون بالدفء وكل وسائل الراحة، ويأخذون صورا معرجل ثلج بعيون سوداء وابتسامة صفراء

من رأى ليس كمن سمع. الثلوج كانت تقطع الطرقات والتلفزيون والمدرسة. أحيانا تكون مسافرا وتضطر إلى العودةأدراجك لان الطريق مغلقة، في انتظار أن تأتي كاسحة الثلوج كي تزيل جبال الصقيع. أما بث التلفزيون فكان ينقطعتلقائيا بمجرد ما تتدهور أحوال الطقس، لان محطة الإرسال موجودة في أعالي ميشليفن، عندما تكسوها الثلوجيتعطل البث. كنا نقضي ليال طويلة بدون رسوم متحركة وبدون شريط دولي وبدون مسلسل عربي، قمة الحزنوالكآبة. حتى الكهرباء كانت تنقطع أحيانا، والماء يتجمد في الصنبور، مما يضطرنا لتذويب الجليد كي نشربباختصار، كنا نعيش في «سيبيريا»!

قليلة هي الأصوات التي تدافع عن مغاربة «العصر الجليدي»، لأنهم يعيشون في تلك الجغرافيا التي صنفهاالاستعمار ضمن «المغرب غير النافع»، وليس من عادتهم الشكوى والتظلم، والنواب الذين يفترض أن يدافعوا عنقضيتهم يسكنون في فيلات مكيفة بالرباط!

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي