منير أبو المعالي يكتب: مؤسسة الديكور

09 يناير 2020 - 18:00

يجلس شكيب بنموسى على كرسي مخصص للطلاب داخل قاعة فسيحة، وهو يتصنع نظرة غارقة في التفكير، مستمعا إلى ملخصات يقدمها رؤساء الأحزاب والنقابات على عجل، وبشكل مرتجل في بضع دقائق، حول «مشروع يهم أمة». وطيلة أسبوع كامل، كانت الصور المتدفقة عن هذه الجلسات تبدو كأنها وُضبت على المقاس نفسه لكي توحي بوجود شكل متساو من التقدير بين بنموسى والآخرين. وهذه طريقة محترفة في تسويق شيء لا يبدو أن الناس في الأصل يرغبون في شرائه.

في الواقع، يبدو أنني من القلائل الذين يهتمون بما يفعله بنموسى، وحُق للآخرين ألا يحفَلوا بذلك. إن القاعدة الجوهرية لم تُحترم في المسطرة؛ لا يمكن أن تطلب من الأشخاص أنفسهم الذين كانوا القطع الرئيسة في تخطيط ثم تنفيذ نموذج تنموي أصيب بالتلف في وسط الطريق، أن يخططوا لفكرة جديدة، إلا إن كنت مقتنعا بأن هؤلاء الأشخاص ليس لهم في نهاية المطاف دور حقيقي.

والحقيقة الوحيدة هي أن النموذج التنموي، بوصفه مشروع مستقبل أمة، ليس سوى طبق هامشي على جدول أعمال الأفراد المنشغلين بالكفاح اليومي إزاء صعوبات حياة متزايدة.

لكن الناس غير المكترثين بأعمال لجنة يُراد أن تهندس حياتهم عشرين عاما مستقبلا، لديهم –عندما يسمح لهم الوقت بذلك- ما يشغل بالهم: قصص المشاهير. ليس هناك في الغالب سوى قليلين لم يسمعوا أو يهتموا بقصة دنيا باطما ومشاكلها. الإحصائيات على قناة «يوتوب» تكشف لنا شعبا بالكامل يلاحق سلسلات التي تنتجها بعض مؤسسات الإعلام بدهاء، حول شخصية من عالم الفن يقال إن شبكة من المعاونين كانوا يساعدونها في تصفية الحساب مع منتقديها بطريقة دنيئة.

هذا ليس عملا حذقا من سلطات تبدو، لبعض الغارقين في نظريات المؤامرة، كأنها تؤلف كتابا كاملا عن الإلهاء. بل هو، في رأيي، الضرر الجانبي -وقد أصبح هائلا- لتحويل الموضوعات الجوهرية في البلاد إلى سلسلات كاريكاتورية. وحري بنا أن نقول إن قصة دنيا باطما، على كل حال، تبدو أكثر صدقا من قصة النموذج التنموي. ليس للناس في هذه البلاد الكثير ليتشبثوا به، وهم يفضلون، في ذلك الفراغ المحبط، أن يقضوا أوقاتهم في بعض الترفيه، وقصص المشاهير تُولد تنفيسا ضروريا. خير أن تهتم بشخصية فنية وهي تقتاد بمعية شقيقتها إلى مركز شرطة، من أن تلحظ رئيس حزب يدلف إلى اجتماع مع بنموسى صحبة ابنته، وابن حليفه في الحزب.

ليس هناك ما يوحي بأن بنموسى يريد أن يجعل من لجنته موضوعا رئيسا للجمهور، لكنه، دون شك، يصرف بعض المال الإضافي من الميزانية المخصصة له محاولا أن يستقطب بعض الانتباه. غير أن النتائج مخيبة للآمال حتى الآن. لا يغرس التواصل باستخدام تقنية الديكور سوى فكرة واحدة في العقول: إن العملية برمتها مجرد ديكور أيضا.

والديكور، في هذه المرحلة، بات خاصية مميزة لممارسة الأعمال. على سبيل المثال، عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، أنفق مالا كثيرا على سلسلة جولات على المدن لتسويق «أحلام جديدة». لكن أخنوش لم يتعلم الدرس. مقدمو الخدمات، ووكالات الإعلان والعلاقات العامة، كانت لديهم القدرة على فعل كل شيء كما يجب. الديكور كان مناسبا لرجل يخشى مواجهة الحشود، لكن، مع ذلك، لم يستطع مقدمو هذه الخدمات أن يغيروا ما بأخنوش نفسه. الناس في الواقع هم من يخشون أخنوش، وبعض العبارات القصيرة، وهي تلقى بحماس، تتكفل بإثبات ذلك في النفوس. إن ما يرهبه الناس في أخنوش هو الاحتمال الهائل لأن يكون مجرد ديكور، أو قناع، لشيء ما هو أسوأ بكثير.

لدى الناس ملل كبير من الديكور. وإذا كان عليهم أن يلتفتوا إليه، فإنهم يتوجهون حيث يكون الديكور ديكورا حقيقيا، أي قصص المشاهير أنفسهم. والناس، على كل حال، يتعلمون دروسهم كل مرة، ولا يمكن أن تنطلي عليهم الحيلة نفسها مرة تلو الأخرى.

لكن، دعني أقول أيضا إن الملايين من الأفراد المنتشين بملاحقة قصص المشاهير، هم أنفسهم، على ما يبدو، من يجعل الأشخاص -الذين يرون أنفسهم في قصصهم- مشاهير. لنأخذ حالة فناني راب الشارع الثلاثة الذين وجدوا أنفسهم فجأة وقد أحاطت بهم سيول شهرة على قدر هائل من التعقيد. هؤلاء الشبان وقد كانوا وجوها مغمورة من قبل، أطلقوا قطعة راب بعنوان «عاش الشعب» شاهدها، في حوالي شهر، قرابة 20 مليون شخص على «اليوتوب» فقط. كان من المفترض أن يتوقف دور الشبان عند هذا الحد، لكن المضمون السياسي للقطعة فرض عليهم موقفا في الحياة لا يجب أن يتزحزحوا عنه. وبغض النظر عن العواقب التي يمكن أن تحدث لهؤلاء الشبان -وأحدهم في السجن حاليا، فيما الثاني ملاحق في المحاكم- فإن الفكرة الحيوية هي أن الناس –وهم بالملايين- ممن لم يهتمون بالاطلاع على سطر واحد من الأوراق المقدمة من لدن الأحزاب والنقابات إلى لجنة النموذج التنموي الجديد، قد وجدوا في كلمات أغنية راب شارع بيانا سياسيا ملائما.

إن ما فعله الشبان الثلاثة هو أنهم أسقطوا الديكور بشكل خشن في ذلك الأستوديو الكبير، حسب ما يعتقدون، والذي يشعر الناس بأنهم عالقون داخله.

علينا أن نكون صريحين؛ إن المشكلة الجوهرية مازالت هي هي، أي ذلك التحويل السريع لكل شيء تقريبا في هذه البلاد إلى ديكور، زخرف على الجدار. لقد عملت الدولة على ذلك في بعض المقاطع، لكن هناك من ساعدها كذلك، وهناك من قبل بمجاراة التيار دون أن يكون مطلوبا منه ذلك. على الدولة أن تحذَر هؤلاء دون شك.

في نهاية المطاف، نملك بين أيدينا «ثقافة ديكور» تشكلت في السياسة كما في كل شيء آخر، حتى إننا بالكاد نستطيع التمييز بين الواقع وبين الديكور. بكلمات أخرى، لقد أصبح الديكور مؤسسة هي الأخرى، حيث المؤسسات باتت نادرة.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي