سليمان الريسوني يكتب: حالة عبد الله العروي

11 يناير 2020 - 18:00

أول ما يسجله عبد لله العروي عندما يحاضر، أو عندما يُصدر كتابا جديدا، وحتى عندما يخوض سجالا -ونادرا ما يُساجل- هو أنه يخلق الحدث، ويُحدث الأثر. شخصيا، لا أتوفر على أرقام لمبيعات كتبه، أو أعداد الذين يملؤون القاعات عند كل محاضرة من محاضراته، أو من يتابعونه على اليوتوب وغيره من الوسائط، لكنني أكاد أجزم بأن العروي هو أكثر المفكرين العرب جماهيرية وعزلة، في آن. أقصد بالعزلة عزلة الكاتب الذي يربأ بنفسه أن يكون مثل حتى في مواضيع شتى. وبالجماهيرية، أقصد حجم الذين يملؤون قاعات محاضراته، ويتزاحمون على أروقة كتبه في المعارض، فضلا عما تثيره خرجاته وإصداراته الجديدة من نقاشات في الفضاء العام.

يحدث هذا، طبعا، في الوقت الذي نتحدث فيه عن أزمة القراءة، وغربة المثقف، وأيضا في ظل ما تحدث عنه العروي، في محاضرته الأخيرة، عن استشراء الأمية الرقمية إلى جانب الأمية الحرفية، مع واقع افتراضي يغشانا اليوم ويذهلنا. فوسط كل هذا الضباب، يظهر عبد لله العروي مثل قديس على رأسه هالة نور، وخلفه الناس يمشون زرافات ووحدانا، دون أن ينبهر هو بسحر الجماهير. بل سرعان ما تجده يعود إلى عزلته ليفكر بعيدا عن تأثير الناس، في ما يهم الناس، لا في ما يريده الناس. لذلك، لا يجد العروي حرجا في التعبير عن أنه لا يكثر الخروج والحديث إلى الصحافة لأن الناس ربما يريدون منه أن ينتقد السياسات العمومية التي يكون أحيانا متفقا معها، فـ«النقد عندي موجه إلى المجتمع ككل»، يقول العروي، دون أن يضيره أن يكون موقفه هذا قد جلب عليه كثيرا من الانتقاد.

ومثل كل المفكرين الكبار، يكسر العروي، دائما، أفق انتظار جمهوره؛ ففي الوقت الذي يقدمه البعض باعتباره عراب القطيعة مع التراث، يخرج هو بكتاب «السنة والإصلاح» مدافعا عن الإسلام أفقا مستقبليا لمسلمي الغرب. وعندما ينتظر أنصار التدريس والكتابة بالعامية (الحداثيون) أن يكون مُنظِّر الحداثة المغربية في صفهم، يخرج العروي ويقول إن دعوى الدارجة «خطر»، ويخوض معهم سجالا ومواجهة إعلامية لم نعهدهما منه. ولعلكم تتذكرون دهشة نور الدين عيوش وهو يقول له على التلفزيون: «اعتقدنا أنك ستكون في صفنا».

لقد مارس عبد لله العروي، في كل مساره الفكري، ما كان زميله الراحل عبد الكبير الخطيبي يسميه النقد المزدوج؛ ينتقد الارتكان إلى القدامة دون أن يدعو إلى دفنها في مقابر التاريخ، وينفتح على الحداثة دون أن يسلم بإطلاقية روافدها وصفاء منابعها. ينتقد بنية النظام دون مغالاة، ويساند الشعب دون محاباة، يقول إن أعماله لم تُقرأ جيدا، غير عابئ بأنها قرئت كثيرا. يرفض فلكلرة الثقافة، ولا يغالي في تغريبها… وسيرا على ذلك، يكسر عبد لله العروي ما ترسخ وكاد يصبح ثابتا ويقينا في أذهاننا، وله نصيب من واقعنا، عن أن العرب لا يقرؤون، ليتحول إلى حقيقة أن العرب يقرؤون عندما يجدون ما يستحق القراءة. نقول هذا بكثير من التحفظ، مع سؤال عريض: هل العروي الذي لا يُقرأ (étudier) جيدا، يُقرأ (lire) جيدا.

هناك تفسير آخر لهذه الحالة الثقافية التي يحدثها عبد الله العروي، وهو أن ضمور المرجعيات الفكرية لدى اليسار والليبراليين، جعل منه آخر الملاذات بالنسبة إلى هؤلاء الذين يجتمعون تحت سقف عنوانه «الحداثة». وهذا أمر مهم، أن يغري العروي السياسيين، أو حساسيات منهم، مثلما -وهو المؤرخ- يغري الفلاسفة والروائيين بقراءاته والتماعاته المتفردة. فالعروي تبنى ماركس التاريخاني الذي جعل من وضعية التأخر الألماني حالة مجردة، ومن ثم حولها إلى إشكالية كونية، واستنبط منها منهجا لقراءة أوضاع التخلف في العالم. وهو ما يسميه العروي بالماركسية الموضوعية، التي تتلون بأوضاع الأمة العربية، كما وصف صاحبها بماركس النافع، حين قال في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»: «أحب أن أوضح أن ماركس، الذي أشير إليه، هو الاقتصادي والمؤرخ، لا المحرض ولا الإيديولوجي». لذلك، من المهم أن يكون العروي مرجعا أساسيا بالنسبة إلى اليسار الذي تراجع حضوره، والليبراليين الذين لم يستطيعوا التحرر وبناء خطاب يأخذ مسافة من الدولة.

إنني، عندما أرى هذه الحالة الثقافية التي يحدثها العروي، أتذكر ما كان الشاعر المهدي أخريف قد كتبه عن زيارة نزار قباني لمدينة القصر الكبير سنة 1965، وكيف أحدث الشاعر حالة ثقافية في هذه المدينة الصغيرة، فأصبح شبابها يستعمل أبيات نزار في حديثه اليومي، ويخرج إلى الشارع متأبطا دواوينه الشعرية… أتذكر هذا وأنا أتمنى أن تكون الحالة الثقافية، التي يحدثها العروي، أعمق، وتتجاوز تأبط كتبه.6

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي