بلال التليدي يكتب: حين يضع «كورونا» النموذج الثقافي في محك تحصين الصحة العمومية

13 مارس 2020 - 17:25

لست طبيبا ولا خبيرا في الصحة العامة، ولكني مجرد مواطن يتلقى مثل غيره المعلومات من أهل الاختصاص في الصحة العمومية. ولذلك، لن أقدم أي معلومة صحية ولن أخوض في أي جدال في قضايا فنية لا تخصص لي فيها.

سيفهم القارئ بشكل مباشر أن موضوعي اليوم، يخص فيروس كورونا المستجد، ومخاطره على الصحة العمومية، وتداعياته على  الاقتصاد العالمي، وربما، أيضا، على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. لنسجل أولا، أن وضعية الوباء دخلت أطوارا محرجة، وأن الأرقام المسجلة، فضلا عن دينامية المرض وانتشاره، تفيد بأن العالم يوشك أن يفقد القدرة على التعاطي معه، في ظل عدم وجود لقاح فعال، أو على الأقل، في ظل الحاجة إلى شهور عديدة لوضع اللقاحات المفترضة تحت الاختبار للنظر في مدى نجاعتها.

لا يهمني الحديث عن الإمكانيات التي يتوفر عليها العلم لمواجهة هذا الوباء العالمي، فالعلم حين يوضع تحت التحدي، دائما، ما يقدم جوابه ولو بصفة متدرجة، وقد يتطلب ذلك بعض الوقت لأن خطوات العلم مِسطرية، يصعب تجاوزها لمجرد الرغبة في معاكسة دينامية انتشار المرض، لكن يهمني شيء آخر، يتعلق بطرق مواجهة هذا الخطر في ظل غياب جواب العلم الحاسم، وهل يعدم العالم الوسائل الأخرى في المواجهة.

منذ القديم، وربما زكت الثقافة الإسلامية ذلك، تشكل جواب ثقافي مجتمعي في مواجهة الأوبئة، يحتم عدم الدخول إلى المكان الذي ينتشر فيه الوباء، وعدم الخروج منه. لكن، تعقد مصالح العالم، ومحورية حركة البشر والسلع، تجعل تطبيق هذه الاحترازات أمرا صعبا، ولو قررت عدد من الدول إيقاف حركة مواصلاتها البحرية والجوية مع الدول الموبوءة بهذا المرض، بل ولو قررت الدول بشكل سيادي، التحكم في حركة السفر بين المدن والمقاطعات إلا لأغراض مخصوصة  جد مقيدة

نحن اليوم، أمام اختبار جديد، يضع العالم أمام إمكانياته الثقافية، إضافة إلى إمكاناته العلمية والتكنولوجية، ومدى القدرة على التأثير في الشعب وإخضاعه للتوجيه القيادي الذي يراعي الصحة العمومية، كما أننا أمام تحدي أي ثقافة قادرة أن تضبط إيقاع شعبها وتجنبه السقوط في المأزق، بل نحن أمام تحدي أكبر يتمثل في اختبار القيادات السياسية والثقافية ومدى قدرتها على التأثير في الشعب، وحمله على احترام قواعد الصحة العمومية للنجاة من المرض.

لنتأمل التجربة الصينية، التي بدأ فيها المرض، والآليات التي جرى اللجوء إليها لمحاصرته، وكيف نجحت من الخروج من دائرة الخطوط الحمر، بواقع شفاء أكثر من 70 ألف حالة، ولنتأمل حالة الانضباط الشعبي لقرارات القيادة الثقافية و»الفنية» والسياسية، ولنتأمل بعد ذلك درجة النظام والانضباط الشعبي، ولنحاول أن نفهم البواعث التي تفسر ذلك، في بلد تتم مؤاخذته دائما على خلفية معاداته للديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان. لا أريد الدخول في تمرين وصف طبيعة الثقافة في الصين ودور الثورة الثقافية التي قام بها ماوتسي تونغ في صياغة العقل والوجدان الصيني، لكن، لنترك مسافة من الوقت لنعقد المقارنة بين ثقافة الصين وقدرتها على  تأطير شعب في مواجهة وباء ساحق، وبين ثقافة أخرى في شمال المتوسط تقوم بالأساس على حرية الفرد،  وكيف بدأت ترد بعض الصور عن شكل تعامل هؤلاء الأوربيين مع قرار تخفيض ساعات فتح محلات التسوق الكبرى، وكيف أصبحنا لا نميز ما يفعلون عما يحدث في أي بلد متخلف. لنترك مسافة من الزمن لنقارن الثقافة التي تأسست على توحيد شعب على مبادئ وقيم ونموذج عيش، وبين ثقافة صهرت المجتمع من خلال التحكم في تناقضاته وفن إدارتها من قبل المتحكمين في  المستهلكين، فالأيام التي ستأتي ستتيح لنا فرصة للمقارنة بين نموذجين من الثقافة، ثقافة الوحدة، وثقافة التعدد المبني على إدارة التناقض داخل المجتمع.

لا أريد أن أسابق الزمن، وأضع الثقافة الأوروبية في خانة الفشل، فالشكل الذي تعاطت به نخب إيطاليا مع قرار رئيس الوزراء بخصوص الحد من حرية التنقل، يشير إلى بعض إمكانات الثقافة الأوروبية، ومدى قدرتها على توفير جاهزية مجتمعية لمواجهة هذا الخطر، لكن إلى أن تتوفر المعطيات المقارنة، يمكن أن نخلص بغير عناء، بأن ما يعبئ الشعوب وما يقوي جاهزيتها، هو أعمق من قضية آليات وحقوق، وأن هذه الآليات نفسها حتى ولو كانت تنظم شكل الحكم والعلاقات بين سلطه، فهي تبقى بدون معنى ودون جوهر إن لم تتأسس على ثقافة قادرة على تعبئة المجتمع بكل قواه، وتأمين تماسكه في مواجهة أي تحدي يستهدفه.

لديّ شك في إمكانية الثقافة الأوروبية في الخروج من المأزق، على الأقل بالوتيرة نفسها التي خرجت بها الصين، لكن في المقابل، أخشى ما أخشاه، أن يعري مرض كورونا واقع السلطوية في العالم العربي، وواقع الثقافة الهشة، وواقع ضحالة النخب وعزلتها وعدم قدرتها على وضع الشعب في الاتجاه الذي يخدم صحته العمومية. 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

bassou منذ 4 سنوات

لا يمكن خوض الحرب بالحريات الفردية و لكن بالانضباط الكامل للأفراد لقرارات القيادة كيفما كانت صعبة. بريطانيا انتصرت في الحرب العالمية الثانية بفضل انضباط البريطانيين لكل قواعد السلوك التي فرضتها الحكومة. و أجل السكان التعبير عن تذمرهم من سياسة تشرشل إلى نهاية الحرب حيث أسقطوه و لم يتكوا له حتى شرف توقيع استسلام ألمانيا

التالي