القُيّاد وأعوان السلطة والمخازنية.. اليد الطولى للدولة في مواجهة كورونا

24 مايو 2020 - 19:00

شكلت جائحة كورونا فرصة نادرة للمخزن في أبعاده التقليدية العتيقة، لتجديد دمائه والعودة بشكل أقوى مما كان عليه خلال السنوات الماضية. ويتجلى ذلك في الأذرع الموروثة عن المخزن التاريخي، مثل القُيّاد، والمخازنية، والمقدمين والشيوخ، الذين برزوا في الصفوف الأمامية منذ فرض الحجر الصحي في 20 مارس الماضي.

فقد سطع نجم “المقدم” منذ اليوم الأول لإعلان الطوارئ الصحية، من خلال توليه مهمة منح “شهادة التنقل الاستثنائية” لأي مواطن أراد الخروج من بيته لقضاء حاجياته الأساسية، كما برز دور المقدم في تقديم المساعدات الغذائية، جنبا إلى جنب مع القياد وهم يؤدون أدوارهم في الميدان للحفاظ على الصحة العامة. كما أتاحت الطوارئ الصحية للقياد والمقدمين والمخازنية فرصة الظهور، لأول مرة ربما، في مشاهد بعضها سيتذكره المغاربة طويلا، مثلما كان الحال مع “القايدة حورية”، والمقدم “بلعيد”.

يلاحظ مُصطفى نشّاط، أستاذ التاريخ بوجدة، كيف أن صور المخزن التاريخية عادت من جديد، ذلك المخزن الذي ارتبطت جذوره التاريخية بوظيفة “خزن المواد الغذائية لتوزيعها على المحتاجين زمن الأزمات”. حيث إن مصطلح “المخازنية” مثلا، ارتبط في عهد السعديين باعتبارهم “حُراس مخازن السلطة من موارد الجبايات التي كان جزء منها يخصص لتوزيعه على الفقراء إبان الجوائح”.

من جانبه، يؤكد محمد شقير، الأستاذ المتخصص في العلوم السياسية، أن بنية الدولة في المغرب مزدوجة، تضم الجانب العصري وتضم، أيضا، جوانب تقليدية. ورغم أن الحماية الفرنسية أساسا أدخلت هياكل عصرية في التدبير الإداري، إلا أنها حافظت على البنية المخزنية العتيقة التي تقوم على مجموعة من المؤسسات، من قبيل المقدمين والشيوخ الذين يؤدون مهامهم تحت مسؤولية القياد، وذلك على النمط المخزني التقليدي؛ وهو ما يشرحه عبدالرحيم العطري، أستاذ علم الاجتماع بفاس، في كتابه “سوسيولوجيا الأعيان” إلى أن “القائدية في المجتمع المغربي تمكنت من تكريس حضورها وتوسيع صلاحياتها استنادا إلى التجذر الاجتماعي أحيانا، وإلى العنف والتسلط أحيانا أخرى، هذا إضافة إلى استثمارها للانتماء القبلي والإرث التاريخي والعلائقي مع المخزن والقبائل والزوايا”.

وقد ظلت الدولة المغربية تحتفظ بأدوار هاته الهياكل التقليدية، المتمثلة في القياد، المقدمين والشيوخ، والمخازنية. وإذا كان المقدم والشيخ، والمخازنية، عانوا التهميش طويلا منذ الاستقلال، فإن أحداثا مفصلية في التاريخ المعاصر والراهن للمغرب، أعاد لهم الاعتبار، ومن بين تلك الأحداث المفصلية الأحداث الإرهابية بعد 2003.

من جانبه، يرى المعطي منجب، المؤرخ والمحلل السياسي، أن السرعة التي يقتضيها تدبير الأزمات تستدعي من النظام الخروج من الظّل، إذ “تظهر طريقة اشتغاله، والتي يبرز معها المتحكمون الحقيقيون في السلطة”. غير أن الأمر ينطوي في نظره، أيضا، على مسألة سيكولوجية، إذ “لا يخشى المخزن أن يُظهر للشعب، تحت الضغط، أنه من يحكم، لأن الذي نظن أن بيده السلطة تُصبح لديه السلطة”.

فقد شكل مئات القياد، وآلاف المقدمين والشيوخ، وعشرات الآلاف من المخازنية أو القوات المساعدة، اليد الطولى لوزارة الداخلية في مواجهة جائحة كورونا، خصوصا وأنها أذرع تجعلها الأكثر انتشارا فوق التراب الوطني، لا تنافسها في ذلك سوى وزارة التربية الوطنية، لكن دورها الأمني والإداري يجعلها الأقوى والأكثر تأثيرا، وفوق ذلك كله، فإن تماهي وزارة الداخلية مع الرصيد الرمزي والثقافي والتاريخي للمخزن، بحسب الأستاذ الجامعي محمد شقير، يجعلها الأداة الأكثر فعالية في تنفيذ كل ما تخططه السلطة المركزية في الرباط.

وإذا كان الملك محمد السادس قد دعا قبل أزيد من 20 عاما إلى تبني مفهوم جديد للسلطة، حيث دعا رجال السلطة من قياد وعمال وغيرهم إلى أن يكونوا “رجال قرب” من المواطنين، فإن شقير يرى أن رجال السلطة مارسوا ذلك بشكل محدود جدا خلال السنوات الماضية، ويبدو أن الوباء الجديد شكل فرصة لرجل السلطة في أن يكون موظفا للقرب بين السلطة والسكان، في غياب المنتخبين الذين دُفعوا للعودة إلى الخلف، بحجة أن الوباء خطر داهِم يواجه سلامة السكان، وتقع مواجهته على الأجهزة الأمنية قبل غيرها.

كورونا تجدد رداء المخزن

يبدو أن جائحة كورونا منحت للمخزن فرصة نادرة لتجديد جلده القمعي، والعودة بشكل أقوى مما كان عليه خلال السنوات الماضية، أدواته في ذلك؛ القُيّاد، والمخازنية، والمقدمين والشيوخ، الذين برزوا في الصفوف الأمامية منذ فرض الحجر الصحي في 20 مارس الماضي. فالمقدم، تحت سلطة القائد، هو من يمنح “شهادة التنقل الاستثنائية” لأي مواطن أراد الخروج من بيته لقضاء حاجياته الأساسية (التسوق، المرض، العمل)، كما برز دور المقدم في تقديم المساعدات الغذائية، جنبا إلى جنب مع القياد وهم يؤدون أدوارهم في الميدان للحفاظ على الصحة العامة، يحثون الناس على الالتزام بالحجر الصحي لتجنب الوباء القاتل، وقد أتيح للقياد والمقدمين والمخازنية الظهور، لأول مرة ربما، في مشاهد بعضها سيتذكره المغاربية طويلا، مثلما كان الحال مع “القايدة حورية”، والمقدم “بلعيد”. لقد سمحت كورونا لأدوات المخزن أن يظهر رجال السلطة بصورة جديدة، ليس “التبركيك” على رأسها، وبالتالي، أقل عنفا وتسلطا، لقد ظهرت الأذرع الثلاثة لوزارة الداخلية أقرب ما يكونوا إلى “منقذين” و”مسعفين” للسكان من الوباء القاتل، أكثر منهم أذرع سلطة تربطهم علاقة متوترة بالمغاربة على مرّ السنين.

مُصطفى نشّاط، أستاذ التاريخ بوجدة، لاحظ كيف أن صور المخزن التاريخية عادت من جديد، ذلك المخزن الذي ارتبطت جذوره التاريخية بوظيفة “خزن المواد الغذائية لتوزيعها على المحتاجين زمن الأزمات”. حيث إن مصطلح “المخازنية” مثلا، ارتبط في عهد السعديين باعتبارهم “حُراس مخازن السلطة من موارد الجبايات التي كان جزء منها يخصص لتوزيعه على الفقراء إبان الجوائح”، لكن نشّاط لاحظ، أيضا، “أن تدخل المخزن لمساعدة السكان خلال الجوائح في تاريخ المغرب، هم أساساً الحواضر الكبرى مثل فاس ومراكش”. وسجّل الأستاذ الجامعي بالمقارنة مع اليوم أن “ما قد يميز تحرك المخزن المغربي في مواجهة كُورونا هو الإجراء الاستباقي في التعامل معه، وفي تعبئة مختلف وسائل الدولة، عبر المجال المغربي كله”، حيث يبدو أن “وباء كورونا قد زاد من توطيد العُرى بين المخزن والمغاربة، وخفّف من تمثلهم للمخزن باعتباره عنواناً على الشدّة. وليس ثمة أبلغ تعبير عن هذه العلاقة الجديدة بين المخزن والمغاربة التي فرضها وباء كورونا من كلام وزير الداخلية: “نحن في مركب واحد، إما نغرق جميعا أو ننجو جميعا”. “لقد بدّد الوباء فعلاً معايير المناصب والمراتب الاجتماعية”، يقول الأستاذ الجامعي.

 الإرث المخزني

من جانبه، يؤكد محمد شقير، الأستاذ المتخصص في العلوم السياسية، أن بنية الدولة في المغرب مزدوجة، تضم الجانب العصري وتضم، أيضا، جوانب تقليدية. ورغم أن الحماية الفرنسية أساسا أدخلت هياكل عصرية في التدبير الإداري، إلا أنها حافظت على البنية المخزنية العتيقة التي تقوم على مجموعة من المؤسسات، من قبيل المقدمين والشيوخ الذين يؤدون مهامهم تحت مسؤولية القياد، وذلك على النمط المخزني التقليدي.

عبدالرحيم العطري، أستاذ علم الاجتماع بفاس، يشرح بتدقيق هذه الظاهرة، ويذهب في كتابه “سوسيولوجيا الأعيان” إلى أن “القائدية في المجتمع المغربي تمكنت من تكريس حضورها وتوسيع صلاحياتها استنادا إلى التجذر الاجتماعي أحيانا، وإلى العنف والتسلط أحيانا أخرى، هذا إضافة إلى استثمارها للانتماء القبلي والإرث التاريخي والعلائقي مع المخزن والقبائل والزوايا”، إنها نتاج “محلي” لشرط سوسيو- تاريخي معين”. العطري أوضح أن إدموند روتي اعتبر في أبحاثه بأن هذه المؤسسة ليست منغرسة في المجتمع، وأنها لا يمكنها الحفاظ على نفسها إلا بالعنف وفرض الضرائب، إذ يقول عن القياد بأنهم “عاجزون عن تقديم أية خدمة اجتماعية، ولا يدافعون عن مصالح السكان”، ثم يعلّق على ذلك بالقول إن في ذلك “الكثير من العسف والاختزال، فالقائدية لم تكن يوما منغرسة في المجتمع المغربي، بل إن شرط نجاحها وانتقالها من سلطة الأمغار إلى سلطة القائد يظل هو التجذر الاجتماعي والانتماء القبلي”. ويضيف العطري أن “القائدية” نشأت كمؤسسة سلطوية، وتطورت في رحم المجتمع المغربي، “فهي منتوج مخزني وقبلي وزاوياتي، في الوقت عينه ساهم الاستعمار في إعادة بنائها واحتوائها، فالمخزن منحها التعيين ومكنها من سلطة استخلاص الضرائب، كما أن القبيلة منحتها الأرض والتجذر والانتماء والاعتراف بها أيضا، أما الزاوية فقد مكنتها من تبرير وشرعنة ممارستها والاعتراف بها عن طريق التحكيم وجملة من التبادلات الرمزية والمادية. وبالنسبة إلى الاستعمار، فقد وجد في القياد الكبار خير سبيل لأجرأة مخطط التهدئة وإنجاح مشروع الاختراق، فهو لم يعمل على إلغاء القائدية، بل عمل على إعادة إنتاجها وفق ما تقتضيه المصالح الاستعمارية، عبر إخضاعها لتنظيم إداري وتراتبي عصري. ”

الأب الروحي للسوسيولوجيا المغربية، بول باسكون، من جهته يؤكد في دراسته حول “القايدية” بالمغرب على الطابع المخزني البدوي لهذه المؤسسة في الأصل، قبل أن تتطوّر وظائفها نحو جمع الضرائب والقيام بالحرب، ثم ملكية الأراضي والاستفادة من التحالف مع المستعمر في كثير من الأحايين. ويؤكد باسكون تعاظم مكانة وسلطة القياد في ظل الاستعمار، حيث يقول إنه و”خلال السنوات الأولى للقرن العشرين، وبالضبط منذ وفاة باحماد إلى دخول الفرق العسكرية الفرنسية إلى مراكش، كان الحوز الأوسط مجالا لمنافسات قوية بين القياد الثلاثة للأطلس: الكندافي والمتوكي والكلاوي”، بينما كانت “إدارة الحوز في القرن 19 مجزأة إلى عشرين قيادة تقريبا”. ويذهب باسكون إلى أن “القياد كانوا يعرفون أن مجرد استطاعتهم رفع الضريبة إلى أقصى حد على القبائل التي كانوا يسيطرون عليها، كان يتيح لهم الحصول على ظهير تنصيبهم على تلك القبائل”. ويخلص باسكون في دراسته إلى أن النظام القايدي “الذي ولد في الهامش وفي الآن عينه مع التدخل الاستعماري، دون أن يستنفد نمطه المثالي، يطابق تعبيرا مجتمعيا يلتصق بالتكوين المجتمعي المغربي. ولكنه لم يستطع أن ينمو إلا كإجابة عن ضعف السلطة المركزية الناجم عن السيطرة الاستعمارية ذاتها”.

ويضيف عبدالرحيم العطري، من جهته، في كتابه السالف الذكر أن القائد وجد نفسه خلال الاستعمار تحت ضغط التحول من قائد قبلي مخزني إلى قائد كولونيالي منخرط في إطار اقتصاد عصري، يدبر مجالا ترابيا وليس قبليا، لأن الاستعمار عمل على تدمير البنيات القبلية بسلسلة إجراءات، كان من أهمها التحفيظ العقاري وتمليك الأرض، وإخراجها من البعد الجماعوي إلى البعد الفردي، بما يفيد أفول الجماعة وبروز الفرد، إن “العلاقة الجديدة بالأرض ستجعل القائد يتحول من قائد سياسي إلى قائد عقاري يحوز ملكيات شاسعة سمح نظام التحفيظ بتملكها، وشجعت الجوائح والأزمات على توسيعها، وهو ما استفاد منه أيضا الأعيان وكبار التجار الحضريين الذين تحولوا بدورهم إلى ملاكين كبار”.

تقليص وظائف القائد في مغرب الاستعمار، وتغيرها شبه الكلي في مغرب الاستقلال، بانتقالها من منطق القائدية القبلية المخزنية إلى القائدية الإدارية، سيؤدي، حسب العطري، دائما، إلى ضمور القائدية القديمة وظهور العينية الجديدة، فـ”القائد كان يتحكم في مجاله القبلي ولا تربطه بالمخزن سوى علاقات التعيين والتضريب، سيغدو موظفا لدى وزارة الداخلية، يأخذ أجرة عن أعماله، تماما، كما باقي موظفي الدولة، ولا يتحصل على نظير أعماله من الضرائب التي يقتطعها المخزن، وهذا ما سيدفع بكثير من القياد الكبار إلى رفض هذا الأسلوب الجديد”. ويوضح العطري كيف أنه وبناء على هذا الترتيب، سيعلن عدي أوبيهي، عامل إقليم قصر السوق (الراشيدية)، يوم 17 يناير 1957 تمرده ضد ممارسات حزب الاستقلال وتدخلات وزير الداخلية حينئذ إدريس المحمدي. “لقد رفض عدي أوبيهي الأسلوب الجديد الذي اتبعته وزارة الداخلية، فقد اعترض على تعيين قواد جدد بلا تجذر قبلي واجتماعي، ومفوضين تابعين لوزارة العدل من غير استشارته، الشيء الذي اعتبره انتقاصا من سلطاته كقائد سابق وعامل جديد، فأوبيهي لم يقبل بالدور الجديد الذي ينبغي عليه أن يؤديه، ولم يقبل أساسا باختراق مجال نفوذه ولا مزاحمته في تدبير وإنتاج سلطته، لهذا تم عزله من طرف وزير الداخلية، الشيء الذي أدى به إلى التمرد”

الإرهاب.. وإعادة الاعتبار 

منذ الاستقلال حتى اليوم، ظلت الدولة المغربية تحتفظ بأدوار هاته الهياكل التقليدية، المتمثلة في القياد، المقدمين والشيوخ، والمخازنية. وإذا كان المقدم والشيخ، والمخازنية، عانوا التهميش طويلا منذ الاستقلال، فإن أحداثا مفصلية في التاريخ المعاصر والراهن للمغرب، أعاد لهم الاعتبار، ومن بين تلك الأحداث المفصلية الأحداث الإرهابية بعد 2003.

لقد أدى المقدم والشيخ، أساسا، أدوارا أساسية في مواجهة الإرهاب، مستغلان دورهما في القرب والمعرفة الدقيقة بالسكان. الأستاذ الجامعي محمد شقير يعتبر أن المقدم والشيخ لهما القدرة على الحصول على المعلومات بجميع أنواعها، والتي تتعلق بحياة السكان وأنشطتهم ومراقبة تحركاتهم، في جميع المجالات، وبالتالي، فهما العين الرقيبة عما يجري في كل حي، وهما أيضا المسؤولان عن إيصال المعلومة إلى الجهات المعنية، معتمدان في ذلك على شبكة من العيون من بقالين وحراس سيارات وبوابي العمارات والإقامات السكنية… ويمكن اعتبارهما، وفق هذه الاختصاصات، اللبنة الأساسية في البنية الإدارية بالمغرب.

ويؤكد شقير أن المعلومات التي يحصل عليها المقدم والشيخ يتم الاعتماد عليها في صياغة التقرير اليومي الذي يُبعث إلى السلطة المركزية، حيث يقوم المقدم بجولات يومية في المجال الترابي الذي يدخل في نطاق عمله، لجمع الأخبار والمعلومات، ونقلها إلى القايد، الذي يتكلف بدوره برفع تقرير إلى مديرية الشؤون العامة بالعمالة.

هذه المعطيات الدقيقة والجزئية تشكل بالنسبة إلى الأجهزة الاستخباراتية، المصدر الأساسي للمعلومات الأمنية التي تحتاجها السلطة من أجهزة الشؤون العامة و”الديستي” و”لادجيد”، من هنا يبدو الدور المركزي للمقدم والشيخ، في جمع المعلومات. ولعل هذا ما جعل الاستخبارات تعتمد على المقدمين في تتبع الحركات المتطرفة، وتترصد نشاط أعضائها والمرشحين المحتملين للالتحاق بها.

وقد عكس توجه وزارة الداخلية نحو تحسين الوضع الاجتماعي لهذه الأذرع المخزنية الثلاثة بعد 2003 هذا الاهتمام بالدور الحيوي لهم. وإن ظهر أن المقدم والشيخ لازال الحلقة الأضعف، فهما ليسا موظفين، بل أعوان للسلطة فقط. فالمقدم والشيخ يتسلمان أجورا هزيلة، رغم استفادتهما من الزيادة العامة في أجور موظفي الدولة بموجب الحوار الاجتماعي لـ25 أبريل 2019، ويختلف أجرهما الشهري حسب نطاق العمل، بين المجال الحضري والمجال القروي، ويتشكل أجرهما من ثلاثة تعويضا: التعويض عن المهام، والتعويض عن التمثيل، والتعويض عن التجول. بالنسبة إلى المقدمين في الوسط الحضري، يتقاضون 3244 درهما، و3035 درهما على التوالي، بعد استفادتهم من زيادتين  قيمتهما 200 درهم في ماي 2019 ويناير 2020، على غرار باقي موظفي الدولة. أما الشيوخ والمقدمين في الوسط القروي، فيتقاضون، حاليا، نحو 2900 درهم و2400 درهم على التوالي، في انتظار أن يبلغ أجرهم نحو 3000 درهم و2500 بحلول يناير 2021.

أما بالنسبة إلى المخازنية، فقد انطلق مسلسل الزيادات في هذه التعويضات الشهرية، منذ العام 2003، وشهد محطات متوالية بمعدل زيادة في كل سنتين، حيث صدرت مراسيم الزيادة في كل من 2006 و2008 و2009 و2011. كما استفادت عناصر هذه القوات شبه العسكرية التابعة لوزارة الداخلية، من زيادة 600 درهم التي أقرتها حكومة عباس الفاسي لفائدة جميع موظفي الإدارة العمومية. وتعتبر هذه الخطوات المتوالية على مدى أكثر من عشر سنوات، محاولة لرد الاعتبار إلى هذه الفئة المهمشة ضمن تشكيلة القوات الأمنية العمومية، فيما اقتصرت هذه الزيادات على التعويضات، والتي وإن كانت ترفع من قيمة الدخل الشهري لـ”المخازنية”، إلا أنها تُحذف بالكامل بمجرّد إحالتهم على التقاعد. معطى برز في السنوات القليلة الماضية، بشروع جمعيات خاصة بمتقاعدي القوات المساعدة، في التعبير عن احتجاجات متزايدة وصلت في كثير من المرات إلى التجمهر أمام مقر البرلمان، ويشتكون من ظروف عيش قاسية في غياب مقومات السكن اللائق والدخل الهزيل المتمثل في المعاش.

وفي فبراير 2014، أقرت الحكومة السابقة زيادات في تعويضات كبار المخازنية تفوق المليون سنتيم شهريا. الزيادات همّت ثلاثة أنواع من التعويضات، وهي كل من “التعويض عن الأخطار” و”التعويض عن الأعباء” و”المكافأة عن التأطير”. كما حمل المرسوم الذي وقّعه رئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران يوم 23 يناير 2014، امتيازا جديدا لعناصر القوات المساعدة، يتمثل في تمتيعهم بمنحة عن “الأهلية”، وتتمثل في تعويض عن الدبلومات أو الشهادات العسكرية.

خطوة الزيادة في تعويضات عناصر القوات المساعدة، أكبر المستفيدين من الزيادات الجديدة، هم كبار مسؤولي هذا الجهاز الأمني شبه العسكري، حيث تبيّن المقارنة بين آخر الزيادات في التعويضات وتلك المقرّرة في المرسوم الجديد، أن المفتش الممتاز من الدرجة الأولى، سيستفيد من قرابة 11500 درهم كزيادة صافية في دخلهم الشهري بحلول العام 2015. وتتوزّع هذه الزيادة بين 5700 درهم إضافية إلى “المكافأة عن التأطير” سيستفيد منها هؤلاء المفتشون على شطرين، أولهما ينفّذ ابتداء من يناير 2014، فيما تطبق الزيادة الثانية في يناير 2015 لتصبح القيمة الإجمالية لهذه المكافأة 15233 درهما، عوض 9500 درهم حاليا. فيما تستفيد هذه الفئة نفسها أكثر من 3700 درهم كزيادة في التعويض عن الأعباء، لتصبح قيمتها 10000 درهم بدل 6268 حاليا، وتتعلّق أقل زيادة في هذه التعويضات الخاصة بالمفتشين الممتازين من الدرجة الأولى، هي تلك الخاصة بالتعويض عن الأخطار، حيث سيحصلون ابتداء من يناير المقبل على 5600 درهم عوض 3600، حاليا.

الفئات الصغرى ضمن تركيبة القوات المساعدة، استفادت بدورها من زيادات “صغرى” في هذه التعويضات، حيث سيحصل الـ”مخزني” على 480 درهما إضافية في التعويض عن الأخطار، و440 درهما كزيادة في التعويض عن الأعباء، واستثنيت هذه الفئة التي توجد في قعر السلم الخاص بالقوات المساعدة، من مكافأة التأطير، إلى جانب كل من “المقدم” و”المقدم الرئيس”. أما في الفئات الوسطى، فسيحصل المساعد من الدرجة الأولى مثلا، على زيادة إجمالية تقدّر بـ2250 درهما موزّعة على الأنواع الثلاثة من التعويضات.

اليد الطولى في مواجهة كورونا

تأهيل وتكوين وتجديد أذرع السلطة خلال السنوات الماضية، وخصوصا المقدمين والشيوخ، والمخازنية، واستثمار كل ذلك في مواجهة كورونا، أظهر وزارة الداخلية اليوم وكأنها استعادت جلدها القديم، باعتبارها “أم الوزارات”. وإذا كان المحزن درج على إثبات دوره وأهميته خلال الأزمات من خلال تصدر الفعل العمومي، فإن تجديد هياكله المتمثلة في القياد، المقدم والشيخ، والمخازنية، أسعفته في ذلك، خصوصا وأن الأحزاب والنخب فضلت التراجع إلى الخلف، لفسح الطريق أمام النظام للقيام بما يقع عليه من مسؤوليات في حماية السكان وسلامتهم.

لاحظ جل المحللين كيف أن النظام بأذرعه المخزنية قد عمل على حجب عمل الحكومة والأحزاب السياسية، في حين تصدر الملك محمد السادس، والوزراء التكنوقراط الذين عينوا على رأس القطاعات الاستراتيجية تدبير الأزمة. تراجع أسماء وزراء سياسيين، بمن فيهم رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، الذي تحول إلى منسق بين الوزراء، أكثر منه رئيس حكومة، بينما أدى الملك محمد السادس دور القيادة، ربما بالنظر إلى حضور الجيش والحقل الديني في مواجهة الجائحة. وهكذا برز محمد اليوبي مدير مديرية الأوبئة التابعة لوزارة الصحة، جنبا إلى جنب مع وزراء آخرين أمثال وزير الاقتصاد والمالية محمد بنشعبون، ووزير الداخلية عبدالوافي الفتيت، ووزير الصناعة والتجارة حفيظ العلمي.

يرى المعطي منجب، المؤرخ والمحلل السياسي، أن السرعة التي يقتضيها تدبير الأزمات تستدعي من النظام الخروج من الظّل، إذ “تظهر طريقة اشتغاله، والتي يبرز معها المتحكمون الحقيقيون في السلطة”. غير أن الأمر ينطوي في نظره، أيضا، على مسألة سيكولوجية، إذ “لا يخشى المخزن أن يُظهر للشعب، تحت الضغط، أنه من يحكم، لأن الذي نظن أن بيده السلطة تُصبح لديه السلطة”.

في هذا السياق، تحول القياد في بداية مواجهة الجائحة إلى نجوم؛ ولازال الفايسبوك يحبل بالتعليقات على القايدة “حورية”، وهي تجوب أحياء مدينة آسفي، من أجل حث المواطنين على الالتزام بالحجر الصحي، مستعينة بالقوات المساعدة والمقدمين والشيوخ كذلك. خلّفت القايدة حورية، على خلاف آخرين طبعا، ارتياحا لدى المواطنين بفضل أسلوبها البسيط القريب من وعي الناس، وربما لأن المغاربة لم يألفوا القياد القريبين، بسبب الصورة التي يحتفظ بها الناس، والتي تربط بين القائد والتسلط.

يضطلع القايد، قانونيا، باختصاصات حيوية بالنسبة إلى أمن واستقرار المملكة، على رأسها السهر على النظام والأمن العام، ومساعدة المجالس المنتخبة في الجانب الإداري من مهامها وتنفيذ الأشغال، والقيام بوظيفة ضابط الشرطة القضائية، والسهر على تنفيذ المقتضيات القانونية الخاصة بإجراءات تأسيس الجمعيات والإشعار بالتجمعات العمومية، ومراقبة كل ما يتعلق بالأمن والأسلحة والمتفجرات داخل مجال نفوذه، ومراقبة أنشطة تجارة المشروبات الكحولية، ومراقبة أنشطة الإعلان والإشهار في المجال العام، وتتبع حالات المرض العقلي والعمل على إخضاع أصحابها للعلاج، والسهر على الضوابط العامة للصحة، وتسليم الشواهد الادارية وتسلم ملفات طلب الحصول على جوازات السفر. وبالمقابل، فقد منع المشرع على القياد ثلاثة أمور “على وجه الخصوص” تتمثل في حظر الانتماء إلى أي حزب سياسي أو منظمة نقابية؛ وعدم الانقطاع عن العمل؛ وعدم ممارسة أي نشاط مهني آخر مقابل أجر.

وقد وضعت الدولة رهن إشارة القائد المقدمين والشيوخ الذين يمدونه بالمعلومات والمعطيات حول كل صغيرة وكبيرة في الحيز الترابي الذي يمارس فوقه سلطته، كما وضعت رهن إشارته القوات المساعدة التي تعد قوة شبه عسكرية، وهي قوة تنفيذية لدى القائد، يستعين بها في تنفيذ اختصاصاته وأبرزها المحافظة على النظام العام، بعناصره الثلاثة: الأمن العام، والصحة العامة، والسكينة العامة. وإذا كان المغرب يعيش اليوم حالة طوارئ صحية، فإن الاختصاصات الموكولة إلى القوات المساعدة، وأبرزها المحافظة على النظام العام، تبرر لها ليس فقط، التصرف بمقتضى كونها قوة تسخير عمومية، بل جهازا منوطا به، كذلك، المساهمة في المحافظة على الصحة العامة، بمقتضى الاختصاص الأصيل له.

علاوة على ذلك، يعمل هذا الجهاز على أكثر من مستوى، فهو يحرس الحدود، كما يحرس القصور والمؤسسات العمومية والمستشفيات، وينظم الأسواق والملاعب مثلما يحرس المدن والقرى والسدود، وفوق ذلك تجده يحارب الهجرة السرية والتهريب ويكافح الجريمة. وفي السنوات الأخيرة أصبح جهازا فعالا في تفريق المظاهرات والاحتجاجات. لقد ازدادت فعالية القوات المساعدة منذ تعيين الجنرال احميدو العنيكري على رأسها سنة 2009، إذ جرى إعادة تشكيلها من جديد على أساس قيادتين: واحدة شمالية، مهمتها السهر على الأمن العام في المدن والقرى، وثانية جنوبية، مهمتها تعزيز ومساندة القوات العسكرية في الحاميات وعلى الحدود الجنوبية والجنوبية الشرقية.

مئات القياد، وآلاف المقدمين والشيوخ، وعشرات الآلاف من المخازنية أو القوات المساعدة، ثلاثة أذرع تعد اليد الطولى لوزارة الداخلية في مواجهة جائحة كورونا، خصوصا وأنها أذرع تجعلها الأكثر انتشارا فوق التراب الوطني، لا تنافسها في ذلك سوى وزارة التربية الوطنية، لكن دورها الأمني والإداري يجعلها الأقوى والأكثر تأثيرا، وفوق ذلك كله، فإن تماهي وزارة الداخلية مع الرصيد الرمزي والثقافي والتاريخي للمخزن، بحسب الأستاذ الجامعي محمد شقير، يجعلها الأداة الأكثر فعالية في تنفيذ كل ما تخططه السلطة المركزية في الرباط.

وإذا كانت وزارة الداخلية قد عرفت إعادة هيكلة طيلة السنوات اللاحقة على مغادرة إدريس البصري وفريقه، حيث جرى تعويض الأمنيين بالتكنوقراط على رأس الوزارة (الميداوي، جطو، بنموسى، حصاد، الفتيت…)، والتوجه نحو تعزيز وتقوية اختصاصاتها في ثلاثة مجالات كبرى: الأمني، والسياسي، والتنموي. لكن رغم ذلك، فقد استمرت تتدخل في كل مناحي الحياة، من الانتخابات إلى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، إلى راميد إلى السجل الاجتماعي الموحد، بحيث لا يمكن أن تكون هناك أي مبادرة أو مخطط حيوي دون أن تضطلع فيه وزارة الداخلية بدور محوري، ما يجعلها الأداة الأكثر نجاعة في يد النظام، بل محور سلطته.

وفي رأي الأستاذ الجامعي محمد شقير، فإن كل الأصوات التي ارتفعت في فترات معينة تطالب بتقليص دور الوزارة والحد من سلطاتها وإخراجها من بعض القطاعات التي تتحكم فيها، لم يتم أخذها بعين الاعتبار، واقتصر التغيير على إعادة الهيكلة وتعيين موارد بشرية جديدة، لتبقى وزارة الداخلية الأداة المفضلة لدى الملك محمد السادس في تنفيذ سياساته الجديدة منذ توليه الحكم سنة 1999.

وإذا كان الملك محمد السادس قد دعا قبل أزيد من 20 عاما إلى تبني مفهوم جديد للسلطة، حيث دعا رجال السلطة من قياد وعمال وغيرهم إلى أن يكونوا “رجال قرب” من المواطنين، فإن شقير يرى أن رجال السلطة مارسوا ذلك بشكل محدود جدا خلال السنوات الماضية، ويبدو أن الوباء الجديد شكل فرصة لرجل السلطة في أن يكون موظفا للقرب بين السلطة والسكان، بفعل حجم التعبئة والتجنيد في صفوف رجال السلطة، خاصة القياد، من خلال الحملات التي قاموا بها في الشوارع، للإشراف ميدانيا على تنفيذ سياسة الطوارئ الصحية، في غياب المنتخبين الذين دُفعوا للعودة إلى الخلف، بحجة أن الوباء خطر داهِم يواجه سلامة السكان، وتقع مواجهته على الأجهزة الأمنية قبل غيرها.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

karim id moha منذ 3 سنوات

المشكل في المغرب السعيد هو ان اعوان السلطة هما لوكلين الدق بالرغم ان الحكومة تعترف بهم وبمجهوداتهم الا ان هده الشريحة لا قانون اساسي ولا اجرة توفر العيش الكريم له ولاسرته نتمني في القريب العاجل ان تتم تسوية وضعية اعوان السلطة بالزيادة في الاجر الخام لانه لايعقل يشتغل عون سلطة 25 سنة الي 30 سنة و عند الاحالة علي التقاعد يحصل علي تقاعد لا يسمن ولا يغني من جوع الله اشوف من حالهم

التالي