فسحة الصيف.. جواد غريب: هذه قصتي مع الماراثون- حوار

15 سبتمبر 2020 - 07:30

في الحلقات التالية، التي سيروي فيها عداؤون وعداءات مغاربة صنعوا التاريخ، تفاصيل غير مسبوقة عن سباقات أسطورية كانوا أبطالها، سيجد القارئ نفسه إزاء حكايات مثيرة، مروية بلسان أصحاب الإنجاز.

بطل العالم مرتين يحكي عن خبايا إحرازه لذهبية مونديال باريس 2003

قليلون من يعرفون بأن لجواد غريب علاقة خاصة جدا بالماراثون. فإن كنت فزت بذهبية هذا السباق في بطولة العالم لسنة 2003 بباريس، فلأنك بدأت علاقتك به، ذات يوم، بمشاهدة ماراثون مراكش، ثم رحت تجرب حظك معه في غابات مدينتك خنيفرة. هل لك أن تحكي لنا القصة جواد؟

ما قلته صحيح. حدث ذلك سنة 1993 على ما أعتقد. كنت أشاهد واحدة من دورات ماراثون مدينة مراكش، فإذا بي أقول لنفسي، وبحماس: “ما الذي يمنعني من أن أركض هذا السباق وأربحه؟”. وفي اليوم الموالي، بدأت التداريب.

لم أكن حينها منتميا إلى أي ناد، ولا كانت لدي أي معرفة بطرق التدريب وآلياته. فالذي حركني هو حماسي، ورغبتي، ليس إلا. وهكذا لبست حذائي الرياضي، و”شورط”، وتوكلت على الله، لأقطع المسافة الرابطة بين خنيفرة و”الهري”، وتبلغ حوالي عشرين كيلومترا، بالجري.

ركضت مسافة عشرين كيلموترا في الصباح، ثم تناولت الغذاء، وارتحت قليلا، لأحاول قطعها مجددا بعد الظهر. غير أنني توقفت بعدما قطعت حوالي كيلومترين. فلم أستطع إتمام المسافة. وكان ذلك طبيعيا، بحكم أني لم أكن أملك المعرفة والخبرة اللتين تخصان رياضة الجري.

ترى ما هي الخلاصة التي خرجت بها من أول تجربة لك مع رياضة الجري، وبالذات مع سباق الماراثون؟

حين قطعت الكيلومترين، وعدت أدراجي إلى البيت، دون أن أستطيع إتمام المسافة المرغوبة، تعين علي قضاء أسبوع كامل بلا حركة بفعل الألم العضلي. واشتريت محلولا رحت أدلك به رجلي، إلى أن تحسنت حالتي.

أما أول خلاصة خرجت بها من تلك التجربة، فهي أنني مجرد مبتدئ، لا يمكنني، البتة، جري مسافة عشرين كيلومترا في الصباح، وأخرى في العشي. وبالنتيجة، اضطررت أن أشتغل بمعدل حصة واحدة كل يوم؛ إما صباحا أو عشية.

وفهمت، مما حدث، بأن إجراء حصص تدريبية في الصباح وبعد الظهر، أو المساء، متاحة لمن لديهم خبرات طويلة في المجال، ولديهم طرق خاصة في التداريب. فحتى وإن كنت ألعب، حينها، بعض المباريات في الكرة، إلا أن ذلك التحدي لم يكن ممكنا بتلك الطريقة المفعمة بالحماس.

وهكذا، رحت أجري تلك المسافة المقررة صباح كل يوم، لمدة شهر تقريبا. كنت أفعل ذلك بمفردي، ودون أي تفكير في التوقيت. فكل ما كان يهمني، في تلك الأثناء، هو أن أقطع المسافة كاملة، بحيث أركض لعشرة كيلومترات ذهابا وأخرى في الإياب، دون أي توقف.

فمتى حدث التغيير، لتبدأ الصلة بالرياضة المنظمة؟

حدث ذلك لأول مرة حين التقيت بأحد أبناء الحي حيث كنت أسكن في مدينة خنيفرة، ليطلب مرافقتي إلى التدريب. لم يكن عداء، بل كان همه أن ينقص وزنه. ثم إذا به يقول لي، وقد عدنا من الحصة: “أنت مزيان، علاش ما تدخلش لشي نادي؟ غادي تولي أحسن بكثير”.

وبالفعل، فقد رافقته إلى منزل شاب اسمه بوعبيد، كان عداء ومسؤولا، في الوقت عينه، عن تدريب المنتمين إلى نادي خنيفرة لألعاب القوى. وقال لي هذا الأخير، إذ علم برغبتي في الانضمام إلى النادي، إن الأمر بسيط، يحتاج نسخة من البطاقة الوطنية، وصورة.

ومباشرة بعد الانضمام إلى النادي، تكفل بي ذلك الشاب الذي يعيش حاليا خارج المغرب. كان يوضح لي الطرق الصحيحة في التداريب، ويقدم لي النصح، ويقوم لي أخطائي.

وكانت تلك بدايتك مع ألعاب القوى؟

تماما. ولم يمر على وجودي في النادي سوى فترة قصيرة جدا حتى صرت الثاني بعد بوعبيد. كان هو الوحيد الذي يتوفق علي في الحصص التدريبية. دائما يكون رقم واحد، وأكون خلفه. أما الشباب الآخرون، الذين كانوا يمارسون منذ سنوات، فتمكنت من تجاوزهم جميعا.

قلت إن مشاهدتك لماراثون مراكش، في التلفزيون، حركتك، ثم رحت تتدرب. ترى ما الذي كنت تطمح إليه؟

كان هدفي كسب الماراثون. وقلت لنفسي: “أنا نقدر نوض نتريني، ونربحهم كاملين. مالهم، شكون غيكونوا؟”. كنت أملك ثقة كبيرة في نفسي. ومن غريب الصدف أنه لم يكتب لي أن أشارك في ماراثون مدينة مراكش، مع أن الفضل يعود إليه في كوني صرت عداء.

وقضيت، بالفعل، سنوات بين الحلم وأول مشاركة في الماراثون. ترى كيف كانت المرحلة بين تلك البداية في غابات خنيفرة والمشاركة الأولى في سباق 42 كلم و195 مترا؟

أود أن أشير أولا إلى أنني نسيت شيئا اسمه الماراثون حين دخلت النادي. ذلك أنني رحت أشارك مع العدائين في بطولات العدو الريفي، والسباقات على الطريق، فيما اندثر الماراثون من ذهني تماما.

ما السبب الذي جعلك تنسى الماراثون حينها؟

اكتشفت، من خلال التداريب اليومية، والمنافسات، بأن الأمر ليس سهلا كما تصورت في بداية الأمر. وعرفت بأن كل فوز، بأي سباق، يلزمه تضحية كبيرة جدا. فالمسألة تحتاج تداريب مكثفة، وسنين عددا، كي تصل إلى مستوى معين من اللياقة والخبرة.

“ماشي يالله غدا غنمشي نتريني، وشهر شهرين وصافي وغنربح”. فقد وجدت بأن العدائين الذين كانوا يشاركون في المنافسات يملكون سنوات من التداريب والخبرات الطويلة، ولم يصلوا إلى المستويات التي بغلوها بسهولة.

طيب، كيف كانت بدايتك الثانية، وقد صرت تملك رؤية أكثر وضوحا؟

بدأت العدو، عمليا، في سنة 1994. وبعد ثلاث سنوات من العمل الشاق صرت منافسا معتبرا للعدائين من ذوي الخبرة. ويعني ذلك أنني صرت في ظرف وجيز ضمن نخبة العدائين المتفوقين في المغرب. فرحت أشارك في سباقات نصف الماراثون وسباقات الطريق. “وليت كندير بلاصتي، كما كنقولو”.

هل وجدت، إذن، أن الثقة التي حدثتك بها نفسك، في مستهل مسيرتك، كانت في محلها؟

لا أستطيع أن أقول نعم، مثلما لا أملك أن أقول لا. ففي تلك الفترة، وحين كنت أشارك في سباقات العدو الريفي وغيرها، وكنت أنهيها في المراكز بين العاشر والحادي عشر أو أكثر أو أقل، عرفت أن الأمر ليس بسيطا، وأن من سبقوني يستحقون أن يتقدموا علي في الترتيب.

ومع ذلك، فالنتائج الأولى منحتني ثقة أكثر في النفس. وأذكر أنني شاركت، باسم نادي خنيفرة، في سباق للعدو الريفي، حينها، ودخلت سابعا في النهاية، وهو ما مكن الفريق بأن ينال الربتة الثالثة على الصعيد الوطني في فئة الفرق.

ثم شاركت في عدد كبير للغاية من السباقات على الطريق. لم أترك سباقا إلا وكنت ضمن المتنافسين على رتبته الأولى، لا سيما على مستوى الدار البيضاء. وصرت، حينها، معروفا بصاحب المركز الأول أو الثاني، بمعية سعيدو كمال.

وهكذا، شرعت في كسب التجربة. فمن سباق مسافته 10 كيلومترات إلى آخر مسافته 15 كيلومترا، إلى نصف ماراثون، أصبحت أعرف الخبايا وأتفطن إلى التفاصيل الصغيرة التي تصنع عداء جيدا ينافس على الصعود إلى منصات التتويج.

ثم جاء الوقت الذي ستستعيد علاقتك بسباق العمر؛ الماراثون. حدث ذلك سنة 2002، أليس كذلك؟

نعم، وكان ذلك أثناء مشاركتي في ماراثون روتردام الهولندي. ويعود الفضل في هذا التحول إلى مولاي إبراهيم بوطيب، الذي لاحظ تحسن مستواي عبر مشاركاتي العديدة في سباقات نصف الماراثون والسباقات على الطريق.

قال لي حينها، وكنا في سنة 2001، إن علي المشاركة في سباق عشرة آلاف متر ضمن بطولة العالم لألعاب القوى، التي كان مزمعا إقامتها في إيدمونتون بكندا. فخضعت لاختبار في الرباط، تحت إشراف المدير التقني الوطني الأسبق لحسن صمصم عقا. وهو الاختبار الذي أدركت فيه رقمي الوطني (27 دقيقة و45 ثانية)، وحصلت على الحد الأدنى “المنيما”، المؤهل إلى بطولة العالم.

وطُلب مني، في تلك الأثناء، أن أشارك في سباق للمسافة نفسها خارج المغرب، تأكيدا للنتيجة. وبالفعل، حصلت على توقيت جيد، وكنت خلف العداء عبدالرحيم الكومري رحمة الله عليه؛ إذ حصل على 27 دقيقة و25 ثانية، فيما حصلت أنا على توقيت 27 دقيقة و27 أو 28 ثانية.

وبعد العودة من إيدمونتون، حيث سأحصل على المركز الحادي عشر في سباق 10 آلاف متر، شاركت في بطولة العالم للعدو الريفي، حيث دخلت تاسعا، وحصلنا على المركز الثالث في فئة الفرق، ثم حضرت ألعاب البحر الأبيض المتوسط، التي جرت برادس التونسية، حيث تمكنت من الفوز بذهبية سباق عشرة آلاف متر.

وواصلت المشاركات في سباقات المضمار، قبل أن أحضر بطولة العالم لنصف الماراثون، التي نظمت ببروكسيل في السنة ذاتها، حيث كنت بمدينة ليل، ومنها انتقلت إلى العاصمة البلجيكية، لأحصل على المركز الثاني، وأتوج وصيفا لبطل العالم.

جواد غريب.. الفطري

يقصد بالفن الفطري أولئك الفنانين العصاميين الذين لم يخضعوا لقوالب أكاديمية. وجواد غريب، العداء البطل، يشبه أولئك في جوانب كثيرة. ذلك أنه ولد رياضيا فطريا، وتعلم لاحقا كيف يصل إلى منصات التتويج.

شاهد جواد غريب، ذات يوم بعضا من ماراثون مدينة مراكش في التلفزيون، فقال لنفسه: “يمكنني أن أتفوق على هؤلاء. أنا واثق من نفسي. يمكنني ذلك”. وفي اليوم الموالي إذا به يركض في أحراش مدينة خنيفرة، مسقط رأسه، ليحقق الحلم.

وحينما اكتشف أن الأمر ليس بسيطا، مع أنه يملك الطموح والحماس والقدرة على التحمل، راح يبحث عمن يدله على الطريقة الصحيحة للتدريب، كي يبلغ حلمه. ثم انتظم في التداريب، بجدية قل نظيرها، وبرغبة متزايدة في الفوز.

بدأ التداريب نهاية سنة 1993، وصار وصيفا لبطل العالم في نصف الماراثون سنة 2002، وبطلا للعالم في الماراثون سنة 2003 و2005، ووصيف البطل الأولمبي سنة 2008، ورقما لا بد منه في معادلة الماراثون العالمي، من لندن إلى نيويورك عبر شيكاغو وفوكيوكا.

غريب مثالٌ حي للعداء المذهل، بطاقته الإيجابية المتجددة، وصدق سريرته، وقدرته على الذهاب إلى حلمه مهما بدا لغيره بعيدا جدا.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي