منير أبو المعالي يكتب: ضجيج كئيب في البرلمان

24 سبتمبر 2020 - 19:00

أدان نائب في البرلمان، اسمه هشام مهاجري، أعمال الفساد التي تفشت في وزارة الصحة. شاهد الملايين من الناس مقاطع من ذلك الخطاب بفضل الشبكات الاجتماعية، ولسوف ينجح النائب في جعل نفسه ذائع الصيت، ولقد سعى إلى ذلك مرارا بواسطة قيامه بتصوير نفسه داخل أعمال لجان كانت تخضع لضوابط الإغلاق في مواجهة الجمهور. سينافس هذه المرة رئيسه في حزب الأصالة والمعاصرة، الساعي الرئيس إلى البروز. حُقَّ له أن ينتشي في زمن الجائحة.

لكن ما هو مثير للاندهاش، على كل حال، هو صيغ الاستسلام الواردة في خطابه. في غمرة استصغاره لدور وزير، ضحى النائب بمركزه القانوني. لقد وجد أن شركات الأدوية أقوى من أي أحد، «سواء كنت أنت أو أنا»، كما قال بتواضع. وما يبدو إقرارا بالعجز، هو في حقيقة الأمر ليس سوى إدانة لنظام توزيع السلط في هذا البلد. تغذي مثل هذه التعليقات الطائشة الديناميات المتنامية لإضعاف مراكز القانون باستمرار، وفي بعض الأحيان، تقود إلى أعمال عدوان. حدث ذلك قبل سنوات مضت، عندما حاول شخصان يمثلان تكتلا لشركات الأدوية أن يضربا وزير الصحة نفسه آنذاك، الحسين الوردي، داخل البرلمان. بعدها، خصصت السلطات فرقة تضم حراسا شخصيين لهذا الوزير، بعدما تلقت عائلته تهديدات.

وفي الواقع، فإن المشكلة ليست في ضعف مقدرة الموظفين الحكوميين على مواجهة النفوذ المتزايد لشركات الأدوية أو غيرها، وإنما في ما إذا كان البرلمان يفعل أي شيء للتقليل من ذلك النفوذ على المسؤولين الحكوميين. في الواقع، وكما شهد بذلك وزير الصحة نفسه، فإن النواب أنفسهم يسعون دون هوادة إلى أن يتحولوا إلى مركز نفوذ. في أعمال تلك اللجنة حيث ألقى النائب خطابه، ظهر أن للنواب مشكلة واحدة فحسب: شركة معدات طب لم تنل صفقة هائلة، دفعت بالنواب إلى مضايقة الوزير علنا. يفعلها النواب كل مرة على كل حال. في البرلمان، إذا ما أخفق رجل أعمال في تبسيط مشاكله مع الحكومة، يصبح نائبا، وتتبخر مشاكله بشكل تدريجي. يصبح المساهمون في شركات الأدوية نوابا، لكن عادة ما يحلو لهم تقديم أنفسهم بصفتهم صيادلة. تعريف مهني لا يُخلف وجعا بين الناس. أصحاب مشاريع العقار والبناؤون الكبار يقتعدون كراسيهم في البرلمان جنب زملائهم الذين سوف يقتنون منهم لاحقا شققا في مشروع ما. المستثمرون في المدارس الخاصة لديهم حصة في مقاعد مجلس النواب. ملاك بواخر الصيد والفلاحون الكبار لديهم مقاعد مماثلة. في الواقع، لا يحتاج المرء إلى كثير من الحصافة كي يختمر في ذهنه التخمين المناسب في هذه الحالة؛ إن البرلمان نفسه يضغط على نفسه. تتحول جهة ضغط متعددة الأشكال إلى سلك كهربائي كل مرة طُرحت فيها مشكلة بين السلطات الحكومية وقطاع عمل خارجي.

لا يمكن حرمان الناس من حق حيازة الصفة النيابية بسبب أعمالهم، لكن قوانين الشفافية وضمان الحياد تتطلب أكثر من وجود نوايا حسنة. يمكن ملاحظة ذلك في أن أعمال الضغط (Lobbying) غير موجودة بشكل مؤسسي في البلاد. في الواقع، إنك لا تحتاج إلى شركات لفرض نفوذك في البرلمان، إذا كان بإمكانك أن تكون عضوا فيه. لا حاجة إلى شراء نائب إذن.

وعلى كل حال، إذا كان قد بقي للبرلمان من دور، فهو أن يراقب السلطات الحكومية. وبالرغم من الفذلكة السائدة، فإن بعض النواب يستطيعون، في سعيهم الشعبوي المخادع، أن يكشفوا جوانب لا تثير الارتياح في طريقة تصورهم لأعمالهم. يعكس جواب وزير الصحة، خالد آيت الطالب، عن خطاب ذلك النائب، كيف يمكن أن يكون الخطاب الشعبوي مدمرا. تتحول جلسات المراقبة تلك إلى ما يشبه محاكمات كاريكاتورية لأعمال فساد قديمة. لا يقدم النواب تقويما للسياسات المتبعة، ومن النادر أن يسعى أحدهم إلى عرض استراتيجيات عمل بديلة وأكثر كفاءة. بذلك الشكل، يمنح النوابُ المسؤولين الحكوميين فرصة ثمينة لتعزيز شعبيتهم. يبدو النواب وكأنهم فاقدو البوصلة. قبل أن يدلف آيت الطالب إلى تلك الجلسة، كان قد محا من الوجود حوالي 160 مسؤولا مركزيا وجهويا تحت سلطته. سيظهر النائب المذكور آنفا وكأنه غير مطلع عندما سيطلب من الوزير نفسه حرصا أكثر على مراقبة رؤساء الأقسام والمصالح بوزارته. كان هؤلاء جميعا قد فقدوا وظائفهم يوما قبل ذلك.

لا يؤخذ عمل النواب بشكل جدي في كثير من الأحيان، وغالبا ما يوضع النواب في مكان دمى تحريك يديرها بعناية رؤساء الأحزاب الذين يتفاوضون بشكل أكثر براعة على غلة سياسية أكثر نجاعة. يتحول التصويت العمومي إلى محطة للشعور بالإذلال، وينصرف غالبية النواب عادة قبل أن يشرع رئيس جلسة التصويت في عد الحاضرين. على هذه الصورة أن تتغير، لكنها ليست صورة تتعلق بنواب مستقلين بأنفسهم فحسب. في حقيقة الأمر، لم يضعف البرلمان بسبب تدهور شعبيته لدى الناس، ولا أيضا لأن كفاءة أعضائه محدودة. يضعف البرلمان عندما يصبح في جيب الحكومة، أي حينما تصبح نتائجه الختامية هي نفسها ما تجعله الحكومة موضوعا لاحتفالها السنوي.

لم تترك الجائحة شيئا كثيرا للبرلمانيين لفعله، فقد تخلوا، طواعية، عن حضور الجلسات، ومنعهم القياد في المناطق من الحركة، مثلما يفعلون مع المواطنين العاديين. بقى للبرلمانيين حل أخير؛ أن يعتاشوا على مساحة البث المتاح إليهم، وأن يمجدوا أنفسهم بواسطة إعلانات ديماغوجية عن الفساد، وليس هناك أفضل من زمن كوفيد19 لفعل ذلك. حدث ذلك في قضية لوح بها نائب من الاتحاد الاشتراكي في أعمال لجنة برلمانية بشأن بوابة إلكترونية زعم أنها كلفت ربع مليار سنتيم، قبل أن يتبين لاحقا زيف ذلك الادعاء. بعبارة أخرى؛ إن الحديث المتكرر عن خسارة الحرب على الفساد، يبدو مثل نقود لا تصدأ؛ سيصلح دوما لجعله زخرفا مزينا في سيرة ذاتية تُلقى في زمن الحملات الانتخابية، حيث يكون للنقود الحقيقية أيضا مفعول ساحر.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي