شهادات صادمة من قلب جحيم زواج القاصرات

05 سبتمبر 2014 - 03:05

تحقيق: أحمد المدياني

هنا وسط منحدرات الأطلس تربي الطفلة طفلة أخرى. نحيفة قصيرة لا تقوى على حمل رضيع فوق أكتافها. مظهرها يفند الإشاعات القائلة إن «طفلات الجبال يفقن سنهن جسديا». فوحدها الحاجة لكسرة خبز، يزكيها بؤس انعدام شروط التمدرس، تجعل الحكم عليها بجحيم الزواج وهي قاصر «حلالا»، وإن جرمته المواثيق الدَّولية. في هذا التحقيق تعرض «اليوم24» أرقام تنشر لأول مرة عن استمرار الظاهرة، عبر رحلة استمرت لأزيد من عشرة أيام بين أحضان «مملكة زواج القاصرات».

هل يصدق المرء أن الفتاة هنا هي في حكم العانس إن تجاوزت سن الـ14 عشر دون زواج؟ وهل يصدق كذلك أن تكون في سن الـ16 من عمرها وقد عاشت تجربة الزواج والطلاق مرتين؟  الأمر يتطلب الوقوف مليا عند الظاهرة المستمرة رغم تقيدها بقوانين لا «تسمن ولا تغني من جوع»، فأن ترهن فتاة فترة طفولتها التي تحتاج للعب والدراسة، قبل ذلك، في سبيل إشباع الرغبة الجنسية لأحدهم، ثم يتخلص منها بعد ثلاثة أشهر مقابل 100 درهم كقيمة لصداقها، هي حكايات تنسج في السنة ألف مرة في سرية تامة خلف أقاصي جبال الأطلس. مناطق زارتها « اليوم24» وشدت الرحال إلى أفقر مناطق المغرب، وتحديدا في الدواوير والقرى المتواجدة فوق تراب إقليم ميدلت، لتنقل شهادات وأرقام ووقائع صادمة عن زواج طفلات بعضهن زوجن في سن الـ12، وأخريات نذرنا للزواج في سن الـ10 !

زوجتك ابنتي !

يكفي أن يطلق الأب عبارة «زوجتك ابنتي على الصداق المسمى بيننا»، بعد قراءة الفاتحة بحضور الزوج وفقيه القرية، ليمنح طفلته القاصر بين يدي من يكبرها بسنين كثيرة. قصد إشباع رغبة الرجل الجنسية، وقيام بمهام البيت من كنس وحطب وطبخ، يعقبها إرضاع أطفال يرون في أمهم حين يكبرون أختا لهم بحكم تقارب السن بينهما. 

انطلقت قافلة مؤسسة «يطو» الاجتماعية لمحاربة زواج القاصرات من زاوية «سيدي حمزة» القريبة من مدينة «ريش» نواحي العاصمة الإدارية للإقليم «ميدلت»، وداخل سوقها الأسبوعي الذي يحج إليه الباحثون بحثا عن قوتهم اليومي، المئات من المغاربة القادمين من أعماق الجبال المطلة على الزاوية. في ركن من السوق، وخلال عملية التواصل والتحسيس بخطورة تزويج الطفلات، بلغ المتطوعين وجود حالات خطوبة لطفلة لم تتجاوز بعد سن الـ11، سارعت رئيسة المؤسسة نجاة إخيش للبحث عن الزوجة المستقبلية، عملية تابعتها «أخبار اليوم» ووثقتها بالصوت والصورة، طفلة نحيفة قصيرة بريئة الملامح، كانت رفقة أمها المسماة «حفصة»، استنفرت الجميع، بمن فيهم «فان شي فام» المكلفة ببرنامج الطفولة داخل «منظمة الأمم المتحدة للطفولة» (مكتب المغرب)، ليدخل الجميع في مفاوضات مع عائلات الطفلة التي لم تشأ مغادرة المكان الذي احتضن المفاوضات بعد علمها بالعرض الذي تقدمت به مؤسسة «يطو» لإنقاذ مستقبلها. 

حكاية «حفصة» انتهت كما هي نهايات الأفلام السعيدة، بعد أن حرر والدها التزاما بعدم تزويجها قبل أن تتم دراستها وتبلغ سن الـ18، وفي المقابل قدمت مؤسسة «يطو» عرضا بتبني الطفلة وتغطية جميع مصاريف كسوتها ودراستها إلى أن تبلغ مستوى الباكالوريا. 

خلال تواجد الجريدة بالسوق الأسبوعي لزاوية «سيدي حمزة» بلغ القافلة تسجيل أزيد من خمسين حالة تزويج للقاصرات بدوار قريب من المنطقة يسمى «تزروفت»، وأغلب الحالة هي لطفلات ما بين سن 15 و 16، ما أكد المعطى رغم إصرار السلطات المحلية على إنكار وجود الظاهرة، وتعبئة مسؤوليها في «الزاوية» لإحدى مستشارات الجمعيات قصد تحريض النسوة على إنكار زواج القاصرات (واقعة وثقتها الجريدة بالصوت والصورة)، توافدت طفلات كثر على الحلقات التي فتحت، ومن بينهن (مريم، أ)، التي دخلت في مواجهة جريئة مع المستشارة الجماعية، وأرغمتها على قول الحقيقة بحدة أبهرت جميع من عاينوا الواقعة.

حظ مريم لم يكن كحظ حفصة التي أنقذها تكفل مؤسسة «يطو» بمصاريف دراستها، هي اليوم في سن 18، ولديها ثلاثة أطفال أكبرهم يبلغ من العمر سبع سنوات، ما يؤكد تزويجها في سن 11، وهي العادة المستمرة إلى حدود اليوم، وخاصة داخل دوار «تزروفت» مسقط رأس مريم، والذي يشهد كباقي دواوير إقليم «ميدلت» ظاهرة «تيمغريو» وهي طقس يتم عادة في شهر نونبر، ويعرف تزويج القاصرات بشكل جماعي، حيث يتم تزويج قاصرات في سن العاشرة «مومو» كما وصفها أحد السكان المحليين في حديثه لـ« اليوم24»

سجينات بين الزواج والطلاق

انتهت محطة زاوية «سيدي حمزة» بخلاصة أن زواج القاصرات هنا ليس ثقافة، بل هو انعكاس لواقع تحدث عنه نسوة المنطقة بوعي رغم تفشي الأمية هنا، ولتبدأ رحلة محطة أخرى عنوانها طفلات سجينات الزواج غير الموثق وطلاق مزاجي بعد الانتهاء منهن. 

هنا دوار «تسراولين»، قوم حادوا الطباع، تفرقهم الانتماءات القبلية أكثر مما يجمعهم المصير نفسه، وذلك ما جعل من ظاهرة زواج القاصرات أكثر بؤسا ومأساوية داخل فضاء لا يضمن أبسط شروط المواطنة الدنيا لقاطنيه. 

وبين كل هذا البؤس والحرمان، بدأ التواصل مع سكان الدوار وخاصة النساء منهم، عملية تطلبت الكثير من العناء بعد أن تدخل ممثلة السلطات المحلية (المقدم) لتعطيل وصول المستفيدين من الخدمات الطبية والقانونية للقافلة إلى المدرسة التي تحتضنها، قبل أن ترن الهواتف بفعل نشر (موقع أخبار اليوم «اليوم24») لتفاصيل الواقعة، ويؤمر المقدم بمغادرة المكان فورا. 

وخلال عملية تعبئة الاستمارات الاجتماعية من طرف المتطوعين في قافلة «يطو» وقفت «أخبار اليوم» على معطى خطير يرهن حياة فتيات صغيرات في السن،يتمثل في أن العديد منهن تزوجن في سن مبكرة دون عقد زواج، لكن لم يجلسن في بيت الزوجية لأزيد من شهرين، وقد وصل عدد الحالات المسجلة حسب تصريح محمد أو سليمان رئيس جمعية «أزم أبرباش» المحلية، إلى أزيد من خمسين حالة، لطفلات لسن في حكم المتزوجات ولا حتى المطلقات. 

واحدة من الطفلات ضحايا هذه الظاهرة، قالت لـ« اليوم24» إنها لم تستطع المكوث في بيت الزوجية لفترة طويلة، وذلك جراء المعاملة السيئة لزوجها، وعدم قدرتها على تحمل متطلباته الجنسية التي لم يقو جسمها النحيل على تلبيتها باستمرار، تحكي ذلك بخجل وحرقة في نفسها على سنوات الدراسة التي ضاعت منها، فهي إلى اليوم بلا حقوق، ولا تستطيع استصدار أية ورقة إدارية بعيدا عن سلسلة الزواج العرفي الملتفة حول عنقها، فالسلطات المحلية ترفض باستمرار منحها شهادة العزوبية رغم معرفة أهل الدوار بطلاقها من زوجها السابق، لكن بالنسبة لأهل الحل والعقد هنا، لا يتساوى عندهم الأصل بالنتيجة، وحسب المحامي بهيئة الدار البيضاء المهدي مساعد، الذي عاين الحالات وعالجها من وجهة نظر القانون وخاصة المادة 16 من مدونة الأسرة، (تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج) وهذا هو الأصل يضيف المتحدث ذاته، لكن تفتح المادة نفسها هامشا يمكن معه تأخير توثيق الزواج، (إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته تعتمد المحكمة في سماع الدعوة الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة، تأخذ المحكمة بعين الاعتبار، وهي تنظر في دعوة الزوجية، وجود أطفال أو حمل ناتج عن علاقة زوجية وما إذا رفعت الدعوة في حياة الزوجين)، والفقرة الأخيرة من المادة وهي الأهم (يعمل بسماع الدعوة الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى عشر سنوات ابتداءً من دخول هذا القانون حيز التنفيذ)، وانطلاقا من كل هذا، يوضح المحامي المهدي مساعد أن الطفلات هن اليوم ضحايا «تقاعس الإدارة والمحكمة في توثيق زواجهن بعد انقضاء المهلة المحددة إلى غاية فبراير من السنة الجارية، ما يجعل وضعيتهن معلقة إلى أن يصدر المشرع ما يخرجهن من حالة التبعية للزوج غير موثقة».  

«أنمزي» مرادف زواج القاصرات

لكل محطة حكاية تطبعها وتجعل من جحيم زواج القارصات واقعا يعكس ما هو أبشع من العنوان الذي اختارت له «أخبار اليوم»، محطة أخرى تنتقل إليها القافلة، داخل جماعة أشهر من النار على العلم، حيث ذاع صيتها سنة 2009 حين أعلن الموت ها هنا بسبب البرد، والمنطقة ليست سوى جماعة «أنمزي» الممتدة لمئات الكيلومترات، والتي يقع تحت نفوذها الترابي كل من دواوير (أغدو، تغدوين، ترغيست، أنفكو، أيت مرزوك، وتمالوت)، حيث لا تتجاوز نسبة المتزوجات في سن يفوق 30 سنة 6,66 في المائة، لكن ماذا عن نسبة زواج من هن في سن أقل من الـ18؟

حسب وثيقة حصلت عليها «أخبار اليوم» بشكل حصري، صادرة عن ضابط الحالة المدنية بجماعة «أنمزي» التابعة لقيادة «أكوديم»، فإن نسبة زواج القاصرات هنا بلغت خلال سنة 2014 نسبا مقلقة ومخيفة تقول نجاة أخيش رئيس مؤسسة «يطو» بعد أن أطلعتها على الوثيقة في حينه، فمنذ فاتح يناير من السنة الجارية وإلى غاية 31 يوليوز من السنة نفسها، بلغ تزويج الفتيات ما دون سن الـ18 نسبة 22,22 في المائة، داخل النفوذ الترابي لجماعة «أنمزي»، مع العلم أن نسبة الطلاق المسجلة خلال الفترة نفسها كما توضح ذلك الوثيقة، بلغت 46,03 في المائة، أكثر من 90 في المائة من نسب الطلاق همت الزيجات التي عقد فيها قران القاصرات برجال كبار السن. 

وتعليقا على هذه الأرقام، قال المحامي المهدي مساعد، إن الفصلين 20 و21 من مدونة الأسرة، يفتحان الباب أمام تزويج القاصرات دون حقوق ضدا في المادة 20 التي تفرض بلوغ الفتاة 18 سنة شمسية كاملة، وضدا في الدستور المغربي الذي يحدد البلوغ في السن نفسه، وهو الشيء ذاته الذي تقره المواثيق الدَّولية المصادق عليها من طرف المغرب، الباب الذي تفتحه المادتان ودائما حسب المتحدث ذاته، لم يضع الحد الأدنى لتزويج القاصرات، بل ويعطيان القاضي حق تزويجها دون إمكانية التقدم بطعن من طرف الأم إن هي رفضت، رغم أن المادة 20 تقيض الإذن بالزواج للقاصر من طرف القاضي بناءً على مقرر معلل يعتمد بحثا اجتماعيا ميدانيا وخبرة طبية، فإن واقع المناطق التي زارتها القافلة، تؤكد بجلاء استحالة قيام القاضي بهذه المهمة وإن وفرت وزارة العدل جيش منهم لتنفيذها، لذلك تطالب مؤسسة «يطو» وعلى لسان رئيستها بحذف المادتين.  

حرب معلنة 

لا تخفي نجاة إخيش رفقة رفيقاتها في مؤسسة «يطو»، وهن سعيدة باجو، المسؤولة عن الشق القانوني، وسعيدة بن زاهر المكلفة بالشق الاجتماعي، بالإضافة إلى باقي جنود القافلة الذين يحجون سنويا كمتطوعين لدعم القافلة، (لا تخفي) حربها المعلنة ضد زواج القاصرات، وإن كانت تتعامل السلطات المحلية كما وقفت « اليوم24» على ذلك بمنطق أمني مع معالجتها، عوض منطلق تنموي واجتماعي يجتث عوامل شيوع هذا النوع من الزواج في أوساط دواوير ينخرها الفقر والتهميش. 

وفي حوار مع «فان شي فام» المكلفة ببرنامج حماية الطفولة في «منظمة الأمم المتحدة للطفولة» بـالمغرب، ستنشره « اليوم24» لاحقا، قالت هذه الأخيرة إن ما عاينته لا يعكس حقيقة التقارير التي ترفعها الجهات الرسمية في المغرب، متحدثة في الوقت ذاته، عن دراسة تقوم بها المنظمة معية مجموعة من المؤسسات الحكومية والجمعوية، غايتها محاربة الاستغلال الجنسي للأطفال بما فيه تزويج القاصرات، وهي الدراسة التي انطلقت شهر نونبر من السنة الماضية على الصعيد الوطني، دراسة أكدت في بدايتها أن زواج القاصرات هو «فعل إجرامي جنسي ضد الطفلات»، إلا أن الأرقام الدقيقة غير متوافرة إلى حدود اليوم، وما هو متوافر رسميا عبر تقارير وزارة العدل والحريات التي تشتغل عليها الدراسة تفيد بتسجيل أزيد من 40 ألف حالة تزويج للقاصرات خلال سنة 2013. 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي