رائحة المدرسة

12 سبتمبر 2014 - 22:04

يقول جاك كاردينال، المحلل النفساني الكندي، إن الطفولة «خليط من الصور المتناثرة والكلمات المبهمة»، ولكنها مع ذلك «تحافظ على وضوح عجيب». نعم، تأتيني الصور متناثرة من ذلك الزمن البعيد والقريب في آن واحد.. زمن خطواتي الأولى في تلك المدرسة الصغيرة بحينا المتواضع بالدار البيضاء. كانت خطوات مفعمة بلهفة لاكتشاف مكان جديد مختلف عن «الجامع»، ذلك «الكراج الذي كنا نظل نكرر فيه ما يقوله «الفقيه» دون أن نحس به أو نفهم منه شيئا قط؛ ومشوبة بالخوف مما يحمله لي هذا العالم الجديد بقاعاته التي كانت تبدو كبيرة وواسعة وسقفها بعيد مثل السماء، ولكن أكثر ما كان يثيرني هو تلك الرائحة النفاذة التي غمرت خياشمي الهشة، تلك الرائحة الفريدة الذي لم أجد لها مثيلا، فسميتها مع الوقت بـ»رائحة المدرسة».

بعد انحسار الرهبة والخجل اللذين غمراني، وكادا يغرقاني، في البداية (ربما لم يتعد الأمر بضعة أيام، ولكنها بدت لي طويلة جدا)، أخذت أرفع اللوحة السوداء الصغيرة ذات الإطار الخشبي أعلى قليلا بعدما أثبت عليها الحرف المطلوب، وكم كنت أجد صعوبة في كتابة حرف الحاء والجيم والخاء، إذ لم أكن أجيد رسم لا منقاره الحاد ولا بطنه المنتفخة.

ومرت السنوات بعد ذلك سريعة لأكتشف أن الكثير من أقراني أرغموا على مغادرة مقاعد الدراسة لسبب أو آخر، وأجدني ضمن القلة القليلة الذين أراد لهم الحظ أن يتجاوزا «الباك» وينهو دراستهم الجامعية.

فتلاشى حماس ولهفة وانبهار الأيام الأولى على تلك المقاعد الخشبية الباردة، وحل مكانه نوع من الخيبة والمرارة وكثير من التيه، وإحساس جارف بالعجز أمام حالة التعليم ببلادي.

فنحن على بعد سنين معدودة من إنهاء العقد الثاني من الألفية الثالثة.. وعلى بعد سنة تقريبا من بلوغ 60 سنة من الاستقلال. ورغم ذلك مازال الكثير من الأطفال الذين يأتون إلى المدرسة مفعمين بكثير من الأحلام في يومهم الأول، يدفعون بشكل أو بآخر إلى مغادرة عالم الدراسة قبل نهايته، أو يغمرهم إحساس مفعم بالمرارة والتيه كما هو حالي.

وإذا كانت اليونسيف قد أشارت في آخر تقاريرها، الذي صدر قبل أيام، إلى أن المغرب قد حقق أخيرا، إنجازا مهما ببلوغ 99.5 في المائة فيما يخص الولوج إلى المدرسة الابتدائية، فإن المنظمة الأممية تنبه إلى أن الهدر المدرسي مازال مرتفعا بالبلاد، إذ لا يتعدى المعدل الوطني للتمدرس في المرحلة الثانوية 61 في المائة.

والأدهى أن تقريرا دوليا آخر كشف عن احتلال تلاميذ المستوى الرابع  ابتدائي بالمغرب، مراتب جد متأخرة في ما يتعلق بقياس تقدم القراءة ومستوى الرياضيات والعلوم. كما أن تقرير التنمية البشرية لعام 2013 الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، كشف أن معدل إلمام البالغين بالقراءة و الكتابة (أي من هم فوق 15 سنة) بلغ 56 في المائة فقط، كما أن نسبة السكان الذين يتجاوز سنهم 25 والحاصلين على مستوى التعليم الثانوي لا تتعدى 28 في المائة.

هذه فقط، بعض الإحصاءات التي تبين أن التعليم المغربي أخفق طيلة العقود الماضية في إنجاز مهمته الأولية والمتمثلة في إخراج المغاربة، كل المغاربة الذين ولدوا بعد الاستقلال على الأقل، من ظلمات الأمية الأبجدية، فما بالك بمهمته الأعمق، أي نقل المغربي من مجرد كائن ضعيف هش مستسلم لإرادة الجماعة، إلى فرد فاعل في هذه الجماعة.. من مجرد كائن يكتفي بالخضوع للأحداث إلى مواطن فاعل فيها.

يقول جان جاك روسو، في مؤلف «إيميل»(Emile)- وهو مرجع أساسي يبسط فيه نظريته للتربية والتعليم في أواسط القرن الثامن عشر، عبر تتبع مسار شخصية خيالية أطلق عليها اسم «إيميل»- «أريد أن أعلمه كيف يعيش». وهذا هو الأمر الذي مازالت المدرسة المغربية بعيدة عنه كل البعد، أي أن تسلح المغربي بما يلزمه من أسلحة حتى يعيش حياته ولا يكتفي بصرفها.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

محمد الفلالي منذ 9 سنوات

هذا الوصف الذي وصفت به مدرستك (رائحة المدرسة) حيث ان للمدرسة في المدينة رائحة لكن رائحة المدرسة في القري النائية حيث ان المدرسة هناك لا رائحة لها ولكن شيء اخر البرودة والحرارة والجوع والتعب والعياء والارض المحفورة وكان الخيل ركضت بارض الحجرة ركضة(الفانطازيا) لا كهرباء ولا ماء ولانوافذ وطاولات متهالكةالخ انهاجدران اربع عليها سقف من قزدير يصوت كلما اشتدت به الحرارة اوالبرودة لعامل التمدد والتقلص هل هذه هي المدرسة التي نادي بها المربون وان كان مربي اميل لا يحب المدرسة لانه استثناء في تربيته

التالي