توفيق بوعشرين: رجل السلطة اليوم

29 سبتمبر 2015 - 22:45

ما عادت للسلطة في المجتمعات الحديثة تلك الهيبة والجبروت والقوة التي كانت لها في العصور السابقة، وما عاد رجل السياسة يتحكم في مصائر البشر كما في السابق. رجال ونساء السلطة أصبحوا أشبه بمديري شركات يديرون جزءا من السلطة وجزءا من الثروة وجزءا من الإدارة وجزءا من اهتمام الناس لمدة محددة وفي رقعة صغيرة، ثم ينسحبون بعد سنوات قليلة مفسحين المجال لآخرين.
رجل السياسة لا يقول الحقيقة للجمهور لأن الحقيقة نسبية.. رجل السياسة ليس طبيبا يصف للشعب دواء شافيا بناء على كشف دقيق وتحاليل علمية. رجل السياسة لا يملك تشخيصا دقيقا للواقع، ولا تصورا واضحا عن المستقبل، لهذا كل ما يدعيه رجل السياسة اليوم في الأنظمة الديمقراطية هو الصدق مع الجمهور.. الباقي ادعاء.
يعلمنا تاريخ السلطة منذ المجتمعات التقليدية إلى اليوم أن رجل السياسة كان في بداية الاجتماع البشري سيد حرب، ثم تحول إلى كاهن، ثم أصبح ملكا، ثم هو الآن مجرد منتخب يسير الشأن العام بإرادة الناس الحرة، وظيفته إدارة جزء من السلطة وجزء من الثروة لفائدة المجتمع، ورعاية نظام قيم متوافق حوله، وفي قلبه المساواة والتعددية وحكم القانون وحقوق الإنسان، وحق كل مواطن في الأكل والشرب والشغل والسفر والتعليم والعيش في سلام.
هذا هو رجل السياسة اليوم، وظيفته إدارة المخاطر المحيطة بالمجتمع، والتقليل منها إلى الحدود الدنيا، وهنا يتنافس المتنافسون أمام صناديق الاقتراع التي لا تعطي أحدا شيكا على بياض.
ما عادت السياسة تقرر في مصائر البشر. انتهى عصر المبشرين وجاء عصر الإداريين، أكثر من هذا، دخل على خط إدارة السلطة شركاء آخرون، وفي مقدمتهم السوق وثقافته ونظمه، والشركات والمصالح الكبرى، والمجتمع الدولي، الاسم المستعار للقوى الكبرى التي تدير العالم من دوائر صغيرة وشبه مغلقة.. العالم يركب حصان العولمة، والقلة القليلة من تعرف إلى أين يسير بها هذا الحصان.
السياسة تخرج يوما بعد يوم من حيزها الوطني الضيق إلى الساحة الدولية الواسعة، والمنظمات الدولية الكبيرة والصغيرة تقرر اليوم في أمور كثيرة في حياة الأمم المتقدمة والمتخلفة على حد سواء، خذ مثلا الفيفا.. لا تتحدث هذه المنظمة الدولية، التي يعرفها الصغير والكبير، باسم دولة أو قارة أو أمة أو عرق أو ديانة.. الفيفا تتحدث باسم البشرية كلها، وتنظم اللعبة الأكثر شعبية في العالم دون تدخل من أية دولة. انظروا كيف تحول جوزيف بلاتر إلى بابا جديد يتدخل في كل شيء في السياسة والاقتصاد والرياضة والإعلام والإعلان.
ترسم المنظمات الدولية العابرة للحدود القوانين والمعايير والأنظمة والمسموح به وغير المسموح به، في الطب والعلم والتغذية والثقافة والعمل والسلاح والدبلوماسية. حتى الأدب والعلوم والإبداع والسينما صارت لها جوائز ومهرجانات ولجان تحكيم تقول هذا أدب وهذا ليس أدبا، هذه سينما وهذه ليست سينما، هذا اختراع علمي وهذا ليس اختراعا علميا.
هل بقي لرجال ونساء السلطة في الدول والمجتمعات من أوهام حول قوتهم وجبروتهم وخلودهم؟ للأسف نعم، والقادة العرب والأفارقة في مقدمة هذا الصنف الذي انقرض من العالم إلا من بلاد العرب. مازال الحاكم العربي يتصور أنه نبي مرسل، أو منقذ مخلص، أو هبة من السماء، أو صاحب رسالة خالدة. مازال الحاكم عندنا خارج قوانين السلطة الجديدة. مازال صنفا يقاوم التطور، لهذا عاش مبارك وصالح والقذافي وبشار وبنعلي… بعيدا عن عصرهم، وبعيدا عن شعوبهم، وبعيدا عن حقائق الواقع من حولهم، وعندما وجدوا أنفسهم أمام امتحانات السلطة القاسية توسلوا بأحد خيارين؛ إما إنكار الواقع وتأجيل التغيير وربح الوقت وإلهاء الشعب، أو اللجوء إلى الشبيحة والجمال والخيول والبراميل المتفجرة وسياسة الأرض المحروقة، وفي كلتا الحالتين هذا هروب وليس جوابا، هذا يأس وليس أملا، هذا مشكل وليس حلا…

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مغربي على قد الحال منذ 8 سنوات

مقال جامع مانع سؤال بسيط يطرح نفسه اتمنى ان تتحفنا بمقاربتة في احدى مقالاته بنعلي والقدافي ومبارك وخليفته وصدام و.... ليسوا سليلي اوساط ارستقراطية بل اتوا من قاع المجتمع ولما حكموا الناس احتقروهم واستعبدوهم لماذا لا يظهر امثالهم في الغرب مثلا الا يفرز كل مجتمع نخبه المعبرة عنه في كل زمان ومكان

مواطن عربي منذ 8 سنوات

كلام صحيح تماما، للأسف الشديد العرب كانوا و لازالوا لديدهم مشكلة حقيقية مع السلطة، من أبسط مسؤول إلى أعلى سلطة في الدولة، الإنسان العربي مستعد للتضحية بكل شيء في مقابل البقاء على رأس الكرسي، الأمم يسخرون منا، القدافي قال لشعبه "من انتم ... أيها الجرذان" بشار الأسد يضحي بملايين المشردين و القتلى و الجرحى و في مقابل ابلقاء في الكرسي، صالح لم يستسغ لحد الآن الخروج من السلطة، أظن أنها مشكلة نفسية بالأساس وربما مرتبطة ببنية العقل العربي و طبيعته

سعيد مرسيليا منذ 8 سنوات

شكرا توفيق على هذا المقال الرائع، لقد وضعت الاصبع على الجرح إلى متى نعيش تحت رحمة الطغاة المقدسين والمنزهين عن الخط وفي الواقع ليسوا إلا لصوص قوت الشعوب وادناب الاستعمار.

متابع لأخبار اليوم منذ 8 سنوات

مقال نعي رجل السلطة ، و تعلم جيدا من أقصد يا سيد بوعشرين

ع المصلوحي منذ 8 سنوات

على رجل سلطة ان يعرف ان الاحوال تغيرت .وان الاسئلة المحرجة التي لم يكن المواطنون يستطيعون طرخها البارحة , اصبحوا يطرحونها اليوم , وان الاسئلة الصعبة التي لا يستطيعون طرحها اليوم , سيطرحونها غدا . فالحكام الادكيا ء يتعاملون مع شعوبهم بدكاء ,اما الاغبياء فيعتبرون شعوبهم كقطيع من الغنم يجب استغلاله الى اقصى حد ,ويجهلون ان مصير هم سيكون مثل اقرانهم,

المهدي يوسفي علوي منذ 8 سنوات

شكرا للاستاد والصحفي توفيق بوعشرين لقد وضعت الاصبع عن الجرح عندما تحدثت عن الانظمة العربية الرجعية التي تقاوم التطور ومواكبة هذا الزمن الجديد لكن المشكل بالنسبة لهده الدول العربية هو انها لا تتمتع بالاستقلال التام والسيادة الكاملة على ترابها كما لايمكن إنكار حقيقة ان الحكام العرب من مخلفات الاستعمار الاجنبي والمقابل الدي يضمن لهم البقاء على سدة الحكم هو محافظتهم على مصالح اسيادهم الاجانب. ( الحديث في هدا الموضوع شاق جدا لكنك ابليت بلاءا حسنا)

احمد القصر الكبير منذ 8 سنوات

دائما تتحفنا بمقالاتك لم تدع لنا شيئا لنقوله شكرا و مزيدا من العطاء و الابداع

التالي