عن الدستور المكتوب وغير المكتوب

22 يونيو 2016 - 15:23

يُميز الفقه الدستوري بين الدستور المكتوب والدستور العُرفي، حيث يكون الأول عبارة عن وثيقة أو وثائق مكتوبة، يضعها الحاكم، أو محيطُه، فيمنحها لشعبه دون مشاركته، أو قد يُشارك المواطنون في صياغتها وإقرارها، بشكل ديمقراطي. أما الدستور العُرفي فهو عبارة عن عادات تواتَر العمل فأصبحت مُلزِمة، ومن ثمة تحولت إلى أعراف ناظمة للسلطة ومؤسسات ممارستها. ليس القصد هنا هذا التعريف الذي دأب طلاب الحقوق على تلقِّيه واستيعابه في بداية رحلتهم الدراسية في الجامعة، ما نعنيه في عنوان هذا العمود  » دستور الواقع »، الذي لم يُكتب، كما لم يُتوافق على صياغته، إنه الدستور الذي تفرضه بيئة النظام السياسي وتشابك مُعطياته، والذي غالباً ما يُشكل علم السياسة مدخلاً منهجياً لفهمه، ونزع اللِّثام والألتباس عنه.
نَستعمل تعبيرَ الدستور غير المكتوب هنا للإشارة إلى تلك  » القوة فوق الدستورية » التي تتدخل إما لخرق الدستور أحيانا عبر تأويل أحكامه ومقتضياته وفق ما تراه ملائماً ومتجاوباً مع مقاصدها، أو اغتصاب شرعيته صراحةً دون تردد وبلا وَجَل، أو بواسطة التأثير المباشر وغير المباشر في سلطة القَيِّمين على تطبيقه وإعمال أحكامه..وفي كل الأحوال، ومهما تعددت الأساليب، ثمة خيط ناظم يحكم ممارسات هذه  » القوة فوق الدستورية »، هو الاشتغال بدستور غير الدستور المكتوب المُصرح به، أو المتوافق عليه..إنه ما يسمى في بعض الكتابات الدستورية  » الدستور الضمني ».
ينتعش الدستور الضِّمني ويشتدُّ اللجوءُ إليه في النظم السياسية غير الديمقراطية، أي المجتمعات التي تتحكم فيها الشموليةُ، وتعيش عجزاً ديمقراطياً، أو تلك التي تنطوي على مؤسسات، وقوانين وتشريعات، ومشاركة سياسية ناقصة، وتعددية حزبية عددية وليس تعددية سياسية، إما بسبب ضعف وعائها الثقافي ومحدودية تأثيره الإيجابي، أو لأن هدفها من الدّسترة، أي وضع دستور، تلميع صورتها الخارجية وفي علاقتها بالعالم ليس إلا.. وفي كل الأحوال يكون الدستور المكتوب في هذه البلدان معطوباً، وغير منتِج لآثاره المطلوبة في مجال تنظيم السلطة وكبحِ جماحها، ومراكمة تقاليد ممارسات مُثلى في تدبير الشأن العام.
إذا نحن انتقلنا من التجريد إلى التشخيص وتساءلنا هل يعيش المغرب بدستورين، أحدهما مكتوب وآخر غير مكتوب أو ضمني، ماذا سيكون الجواب؟.
ثمة في الواقع إجابات بالجمع وليس جواباً واحداً بالمفرد. فمن الباحثين، والمهتمين والمتابعين للشأن المغربي، بل حتى فئات من المجتمع المغربي، تذهب إلى أن في المغرب ازدواجيةً دستوريةً: الدستور المُستفتى حوله، والمُعلن عنه بعد نشره، والمُحال عليه من طرف المؤسسات والأفراد من جهة، ومن جهة أخرى هناك دستور الواقع، أي الدستور غير المكتوب أو الضمني لكن المُمارَس في الواقع. والحقيقة أن ثمة العديد من الأمثلة المُمكِن الاستناد عليها لتأكيد جوانب من رجاحة هذا الاتجاه في الرأي العام. وبالمقابل، هناك من يعتبر الدستور المغربي مثالاً وأنموذجا للدساتير المكتوبة والمطبقة بفعالية، ولهذا الاتجاه بدوره أسانيده، ومبررات إقناعه وحجج دفاعه. في الظن أن المغرب موجود في منزلة بين المنزلتين: فيه فعلا دستور مكتوب، يسعى المغاربة لأن يكون ويظل الفيصل بين الناس، وفي علاقة الناس بالمؤسسات، وأن تسمو قيمتُه على الجميع، وأن ينصاعَ له الجميع، ويمتثلون لأحكامه، وأن يمارس القضاءُ سلطته لضمان سلامة احترام شرعيته، وقبل هذا وذاك أن يظل الملك ساهراً على رعاية حُسن تطبيقه. بيد أن الممارسة تقول، بالمقابل، أننا لم نقطع بعد مواجع دساتيرنا السابقة، على الأقل حتى عام1996، وأن التوافق الحاصل خلال هذا التاريخ و الذي أنقل المغاربة من الاختلاف حول المسألة الدستورية إلى شبه إجماع حولها، لم يفتح الباب واسعاً أمام مراكمة ممارسات سياسية تنهل من روح التوافق حول الدستور، وتستثمر الإمكانيات المهمة التي يتيحها، لبناء وعاء ثقافي ديمقراطي يحمي الدستور، ويضمن له شرعيته بشكل نهائي ولا رجعة فيه.
لذلك، سنخسر كثيرا أن نحن بقينا مترددين بين الاندفاع في تكريس فكرة الدستورية وخلق ممارسات مُثلى، والتردد أو الانشداد إلى الوراء، أي تكرار ممارسات الماضي.. إن الدعوة الملكية إلى ضرورة إعمال التأويل الديمقراطي للدستور واجب، ونداء للفاعلين السياسيين والمجتمع من أجل تطليق فكرة الدستور غير المكتوب أو الضمني، والانتصار للشرعية الدستورية المكتوبة.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي