القراءة المهملة

29 يونيو 2016 - 13:26

عصام واعيس
مع تلك الخطابات القوية وغير المسبوقة في تاريخ الخطاب السياسي الرسمي المغربي، الذي بدأ رئيس الحكومة، عبدالإله بنكيران، يحقن بها أوردة مشهد سياسي ممل وجامد، وهو بعد في بداية ولايته الحكومية، بارك « العقل العميق » للدولة، تلك الدولة التي لا يعرفها بنكيران (وإن كان يعرف كيف تفكر)، من ضمن ما بارك، بروز قيادات وتيارات سياسية جديدة داخل حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، تكون قادرة على منافسة زعيم البيجيدي في غاراته اللغوية، وصولاته الإعلامية، وقدراته الاستقطابية، وإضعاف حزبه سياسيا إسهاما منها في الحفاظ على توازن المشهد.
في أواخر 2012، أطل علينا من الوردة السيد إدريس لشكر، ورجحت كفة السيد حميد شباط في الميزان. وبدا كما لو أن الوجهين الجديدين ارتقيا إلى دفة القيادة من أجل مهمة خارجية، هي منافسة الحزب الإسلامي، وهي مهمة عادية في حدود اعتبارها تدخل في صميم التنافس السياسي المطلوب بين الأحزاب جميعها، وغير عادية باعتبار أنها أدخلت في سياق مد يد العون لبعض الأطراف التي ساندت وصولهما إلى مراكز القيادة من أجل محاصرة حزب المصباح، في زمن سياسي استثنائي وطنيا وعربيا كانت الدولة العميقة تتحرك فيه بحذر شديد.
بشكل من الأشكال، كانت القراءة المذكورة فوق هي المسيطرة في الإعلام في تلك الفترة، إلى درجة أنها أزاحت كل القراءات الأخرى. وكأنه تم خلق نوع من « القبول العام » بأن المستهدف الأول من صعود الزعامات الحزبية الجديدة هو المصباح، وتبعا لذلك المتضرر الأول. وفي سياق هذا القبول العام تم إهمال تلك القراءة التي نبهت إلى أن العكس هو الصحيح، الاستقلال والاتحاد الاشتراكي هما المستهدفان. ثم جرى إهمال هذه القراءة أكثر مع انسحاب الاستقلال من الحكومة، وما كان يتراءى في الأفق من مقابل سياسي سيناله الحزب من وراء تلك الخطوة، ثم مع اجتهاد الزعيمين، إلى زمن غير بعيد، في جعل بنكيران محور مدفعيتهما الثقيلة.
اليوم، ومع ما يتلقاه حزب الاستقلال من ضربات صريحة، ومع تراجع أداء حزب الاتحاد الاشتراكي الانتخابي، يظهر أن العقل العميق كان يعي منذ الوهلة الأولى أن الثمرة الوحيدة التي يمكن أن يجنيها من وضع مشابه للوضع الذي انبثق منذ 2011، هو استنزاف قدرات حزبين كبيرين، وربما كان دافعه الخفي في ذلك، ليس فقط، عزل المصباح عن الحزبين، وإنما عزل الحزبين عن المصباح أيضا.

كان النظام خائفا من صعود زعامات قد تسير في الخط مع بنكيران، أو يظهر لها أن انتقاد التحكم مجزي انتخابيا وجذاب سياسيا، ولِمَ لا تنخرط بدورها وبشراسة في ذلك التمييز السياسي الذي لا يكل زعيم الحزب الإسلامي عن ترسيخه في الخطاب السياسي، بين التحكم وتماسيحه وعفاريته وكائناته العجيبة، والدولة ومؤسساتها وقوانينها، مع ما يتيحه تمييز مشابه من أريحية في الحديث ورطوبة في اللسان وتعاطف في الميدان..
لكن الانتخابات المهنية التي نظمت في يونيو 2015، وبعدها الجماعية في شتنبر من العام ذاته، جاءت لتؤكد أن الحزبين العريقين هما من تلقيا أكبر الخسائر. فقدت الفدرالية الديمقراطية للشغل التابعة للاتحاد الاشتراكي صفة التمثيلية النقابية كانعكاس للانقسامات والمعارك الداخلية للحزب تحت القيادة الجديدة، ثم في الانتخابات الجماعية فقد الحزبان كثيرا من المقاعد الانتخابية لصالح العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة اللذين احتلا الصدارة، قبل أن يظهر أن المشهد يتجه نحو تقاطب سياسي بين الجرار والمصباح، وأنه لا حاجة إلى خدمات أحزاب توازن المشهد غير الحزب المرضي عنه، أحزاب ماضيها السياسي البعيد لازال لا يبعث على الثقة، وصار كافيا الاعتماد على الجرار الذي عاد قويا للمشهد بعدما كان إلى الأمس القريب خائفا يترقب…

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي