سينترا

28 أكتوبر 2016 - 11:25

قبل سنة ونيف من الآن، وبالضبط يوم 24 يوليوز 2015، تناولنا عشاءنا بمطعم La Bavaroise المتاخم لـلمارشي سنطرال » بالدار البيضاء، وعلى بضع خطوات، دلفنا ملهى Cintra. في اليوم الموالي اتصل بي حسن أوريد ينعى محمد العربي المساري، ويقول: « أما أنا فتركت روحي في سينترا، ولا مردّ لها إلا بتوثيق هذه الذكرى إلى كتاب ». وهو ما كان.
في استهلال روايته « سينترا » كتب أوريد: « بعد العشاء (…) عرض « الصحافي الجليل » (…) الاستماع إلى موسيقى محمد عبدالوهاب في مقصف سينترا (…) لجّوا في الضحك وهم يمشون في ليل بهيم نحو وجهتهم. غَشوا بناء متآكلا. بدا المكان كابيا.. في مصطبة كان عوّاد يعزف أغاني محمد عبدالوهاب بصوت قوي وأداء متميز ».
بعد مُدد قصيرة ومتعاقبة: وضع حسن السقاط حدّا لغنائه بسينترا. أخرج حسن أوريد روايته. وأخضعت صاحبة المحلِ المحلَّ لكثير من التحديث وقليل من الحداثة. وانتهت سينترا، أو استحالت شيئا آخر.
في أول عهدي بالدار البيضاء، كنت أبحث عن عناصر وأماكن لتبديد وحشتي في مدينة غول، أنا القادم من مدن صغيرة، الناس فيها كالصوف يدفئ بعضهم بعضا. كانت سينترا حسن السقاط واحدة من الأماكن التي تعطيني بعض الأمان. فهي، كما كتب أوريد، مكان لا يتغير، وأزمنة تتداخل، وشخوص تسكن أدوارا، وأدوار تسكن شخوصا، لتطرح قضايا ملحة، حول العدالة والذات والآخر والتحرر والتمرد، حملها الجيل الذي قارع الاستعمار، وانسلت في غفلة من الزمن، بعد جيلين، في لبوس الإبداع، والهزل والفكر. عادت مع ما اكتنفها من مناطق ظل مستترة أو مُتواطَأ بشأنها.
كان استقراري بالدار البيضاء في دجنبر 2010. بعد شهرين داهم المدينة ربيع فبراير، فكانت سينترا مسبارا لتأمل جيل جديد على ضوء ثقافة قديمة. كان حسن السقاط يجلس على عرشه- المصطبة محاطا بنسرَينِ كاسرين وخلفه صورته الكبيرة رفقة محمد عبدالوهاب الذي كان يفتخر بأنه غنى أمامه، سنة 1970، أغنيته « يا ناعما رقدت جفونه »، عازفا في الوقت نفسه على عود فريد الأطرش.
في سينترا، كان الفبرايريون يستمعون، ليلا، إلى أغاني الزمن الجميل، ويناضلون، صباحا، من أجل الزمن الأجمل. وكم كان حسن السقاط يخذلهم وهو يغني: « قل للأحبة رفقاً بحالهم وبحالي.. يُبدون صداً ولكن هم يضمرون وصالي.. ما أقصر العمر حتى نضيعه فى النضال »، فيردون عليه برفع قبضاتهم في الهواء.
في سينترا، كان كتاب وشعراء ومثقفون من طينة عز الدين العلام وإدريس الملياني وبوجمعة أشفري وإدريس باعقيل ومحمد اليديني وأنيس الرافعي… يستلهمون من السقاط إيقاعهم الشعري والفكري. أما الشاعر محمد عنيبة الحمري فكان هو « المايسترو » الذي يطرب له السقاط، على القدر ذاته الذي يطرب رواد الملهى للسقاط.
يوم الأحد الماضي جرّني عنيبة الحمري، على مضض، إلى سينترا التي لم تعد سينترا. غادرتها بعد فترة قصيرة وأنا أفكر في الإيطالي أمبرتو إيكوا وروايته « اسم الوردة »، عندما حكى كيف أنه وجد نفسه محاصرا بأسئلة العديد من قرائه عن اختياره عنوان روايته الشهيرة، وعن الأبيات اللاتينية التي استمد منها « اسم الوردة »… فكرت في جوابه بأن تلك الأبيات تتعلق بوصف أشياء تختفي في الفراغ، ولا تترك خلفها سوى الأسماء. تذكرت أيضا الشاعر الذي قال: « المنذور لأن يحيا أبدا في القصائد.. لابد له في الوجود أن يبيد »، والتفتت إلى عنيبة: على الشعراء أن يضطلعوا بمهمة ترميم وصيانة أماكن الذاكرة، في قصائدهم. الملّاكون والمسؤولون لا وقت لهم لذلك.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي