الموضة الزائفة

21 نوفمبر 2016 - 12:15

لم تكن “البركاصة” بالنسبة إلى طفولتي، وطفولة أقراني بحينا البسيط في درب السلطان بالدار البيضاء، مطرح نفايات يجدر بنا تجنبه، بل كانت، رغم صغر حجمها، امتدادا لا نهائيا لساحة لعبنا. كانت تلك “البركاصة” بروائحها الغريبة عالما يشحذ حواسنا ويدغدغ فضولنا.. وكنا نعثر دائما في أزبال الناس على كنوز تؤثث لبرهة طفولتنا السريعة الملل من كل شيء إلا الاكتشاف.
لم نكن نسمع لا بالبيئة وحمايتها، ولا كنا نعلم شيئا عن أخطار هذه النفايات. وحتى الجروح التي كانت تلحقنا جراء زجاج مكسور كنا نسارع إلى مص دمائنا المسالة و”ذرذرة” بعض التراب على الجرح، ونواصل اكتشافاتنا الصغيرة. وربما تسربت إلى أبداننا الصغيرة آنذاك ما تيسر من علل، بعضها تلاشى مع مرور السنوات، وبعضها مزال كامنا هنا في زاوية من هذا الجسد الهش.
في أيامنا تلك لم تكن “البركاصة”، بكل أوساخها وذبابها ورائحتها الغريبة، مكانا منبوذا يتعين مبدئيا تجنبه ما أمكن، بل كانت وسط الحي البسيط الذي كان، سكانا وعمرانا، قد أخذ يتخفف شيئا فشيئا من ملامح “القرية”. ولكن هذا “الترييف” سيعود بقوة في العشرين سنة الأخيرة مع أن تلك “البركاصة” العتيدة قد اختفت. ولا أعتقد أن تنظيم المغرب للمؤتمر الأممي حول المناخ “الكوب 22″، الذي ينهي أشغاله اليوم الجمعة بمراكش، سيغير من الأمر في شيء..لا أعتقد أن هذه القمة العالمية سيكون لها تأثير ما على أوضاع الحي الذي اختلط دمي بترابه، رغم كل البهرجة التي واكبت هذا الحدث العالمي، والتي تتلاشى بعد أيام مثلما يتلاشى ضباب الصباحات الباردة.
في تقديري، الاهتمام بالبيئة والأخطار المحدقة بها، مرتبطة بالمدينة وضوابطها الصارمة في التعامل مع الفضاء العمومي. وتكتسي القضايا البيئية مشروعيتها في البلدان الغربية، لأن مجتمعاتها تطورت بشكل “طبيعي” – ماديا وذهنيا وحتى نفسيا- من مجتمعات قروية صرفة إلى مجتمعات “مدينية” معقدة، وانتقل فيها الإنسان من مجرد كائن في الجماعة إلى فرد كامل الفردانية قادر على ممارسة مواطنته، والنظر في شؤون مدينته. لذلك حينما يتحدث الفرد في تلك المجتمعات عن البيئة، فهو يتحدث عنها تلبية لحاجة ملموسة وانشغال قائم.. وحين يبادر إلى القيام بأنشطة مدافعة عن البيئة، فهو يفعل ذلك بناء على تراكم عقود، بل وقرون من التطور في وسائل الإنتاج والتغيير في العقلية التي تدبر تلك الوسائل.
أما عندنا، في المجتمع المغربي، الذي مازال في عمقه بدويا رغم كل اللمعان السطحي لمدنه، فإن الكائن الذي يتظاهر بالاهتمام بقضايا البيئة، فهو يفعل ذلك من باب الموضة لا أكثر.. أو لنقل من باب “تقليد المغلوب للغالب”، كما يقول ابن خلدون. لذلك فـ”انشغاله” يكون سطحيا، مناسباتيا، سرعان ما يتلاشى بعد انتهاء الحدث الذي فرض عليه هذا “الانشغال المزيف”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي