الحكومة المرتقبة.. عود على بدء

06 يناير 2017 - 13:33

أضعنا ثلاثة أشهر لنعود إلى المربع الأول: نسخة شبه مكررة للحكومة السابقة، من حيث مكوناتها، ولا نعرف على وجه اليقين من هُم أشخاصُها.. إنه المغرب العميق الذي عجزت “السوسيولوجيا الاستعمارية” عن رسم مداخل علمية لفهم ألغازه والإمساك بمصادر استمراره.. لكن “رُبّ ضارة نافعة” كما يُقال، فالانتظار السياسي الذي عمّر، في سابقة غير مألوفة في المغرب، ثلاثة أشهر، وقد تزيد بضعة أيام، كشف، بما لا يترك أي مجال للشك، عن وجوه كثيرة لحقيقة حياتنا السياسية، وقواعد اشتغالها، وطبيعة المؤثرات الموجهة لها، وما يمكن أن تتطور في اتجاهه، وما يتعذر عليها قطعا إدراكه إن هي بقيت سجينة ما اعتادت ودأبت على ممارسته.

الوجه الأول غير الظاهر بما يكفي، لكن المحدد الرئيس أن في السياسة، بحسبها تنازعا للمصالح، ليس الدستور ولا القواعد المعيارية وحدها الفاصِلة في ما يسوس البشر وينظم حياتهم، بل هناك “سياسة الواقع”، أي أوزان القوة، وتصادم الاستراتيجيات والحسابات، ومدى صدق إرادات البناء المشترك من عدمها.. لقد تعلمنا وعلّمنا الطلاب أن سؤال الدستور، أي دستور، ليس الإجابة عن نبض الواقع وما يعتمل داخله، ولكن رسم ما ينبغي أن يكون عليه الواقع، أي بناء المستقبل، ومن هنا يظل الدستور بطبيعته موسوما بالمثالية والتجريد، إلى حين توفر الممارسة السليمة التي تمنحه الروح، التي ليست شيئا آخر سوى روح العيش المشترك المتوافق حوله، أي التعاقد السياسي والاجتماعي. لذلك، يظهر جليا أن من مصادر تأخر تشكيل الحكومة حضور ضغط السياسة غير المؤسسة على ثقافة البناء المشترك، ولا المشبعة بقيمها، والسياسة هنا لا نحصرها في ما تتبادر من ممارسات ومواقف من لدن الفاعلين الحزبيين فحسب، ولكن من قبل الدولة أيضا، التي يُفترض فيها في سياق ديمقراطي أن تبقى على مسافة محايدة حُيال مكونات المجال السياسي، وأن تقوم بدور “الضبط “Regulation” الإيجابي” إن اقتضت الضرورة ذلك.

لفت انتباهي وجه آخر من تأخر الإعلان عن تشكيل الحكومة، هو ما يمكن وسمه بظاهرة “المحللين السياسيين”، و”الفقهاء الدستوريين”، وحتى “الاستراتيجيين” و”قارئي المستقبل”، الذين غصت بهم “القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية”، وشرعوا في إصدار “الفتاوى تلو الفتاوى” في كيف يجب الخروج من “الأزمة”، حتى ولو اقتضى الأمر اغتصاب الدستور والرجوع إلى الوراء.. ليسوا طبعا جميعا من طينة واحدة، فمنهم من عرفوا بمن يلهثون يمينا وشمالا من أجل  “كراء أفواههم”، ومنهم من يعتقدون أنهم أقدر الناس على الحديث في كل شيء، وأخطر هؤلاء مع الأسف بعض “الجامعيين”، المفترض فيهم أخلاقيا احترام أنفسهم وتقدير جامعاتهم، والدفاع عن استقلاليتهم الأكاديمية، وتقديم ما ينفع الناس، وليس البحث عن مسوغات ما يضرهم ويؤخر مسيرة تقدمهم.. إنهم من صنف ما ظهر قبل سنوات في فرنسا، مع  فارق كبير في التشبيه، والذين نعتهم الإعلام بـ”المثقفين المزيفين”. الخلاصة هنا هي أن ثمة ضجيجا إعلاميا واكب وأطر هذا التأخر، والأخطر في هذا الضجيج أنه كشف عن أن المغرب لم يقطع تماما مع ماضي ممارساته، وأنه مؤهل لأن يتراجع إلى الوراء إذا لم تنتصر إرادة المحافظة على روح الإصلاح ومشاريعه.

أما الوجه الثالث لهذا التأخر، الذي لا يقل أهمية عن سابقيه، فيخص استقلالية إرادة الأحزاب وبُعد نظر نخبها القائدة. الحاصل أن ثمة مشكلة حقيقية من هذه الزاوية بالذات. فبعض الأحزاب، التي ولدت من تحت عباءة الدولة أو استمرت بفضل رعايتها، فُطمت على هذا السلوك، بل ترى نفسها إلا وفق ما يُراد لها أن تكون، لا ما تريد ويريد أنصارُها أن تكون، وهذه من أخطر مصادر إضعاف الحياة السياسية في المغرب. وهناك أحزاب فقدت معالم الطريق، وابتعدت عن إرثها النضالي، واستثمرت صورة رموزها ومناضليها الأوفياء بغير حق، فكانت النتيجة استغراقها في التخبط والارتباك، وتآكل رصيدها السياسي والشعبي.. إن وضعا من هذه الطبيعة لا يجعل قرار تشكيل الحكومة متأخرا، بل يُضعف أداء الحكومة عند تشكيلها.. إننا في حاجة إلى ثقافة جديدة للدولة ولمنطق اشتغال مؤسساتها، وللأحزاب وممارساتها، وهي طبعا لن تكون سوى الثقافة الديمقراطية، التي تُخرج المغرب من دوامة أسطورة “سيزيف” اليونانية.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Mehdi منذ 7 سنوات

مقال متميز كالعادة أستاذنا المحترم، تم نقل العنونان في برنامج "وجها لوجه" على قناة france24. مناورات تشكيل الحكومة في المغرب. عود على بدء

التالي