آمال عريضة على باب صغير

08 فبراير 2017 - 16:26

تخيلوا معي الفكرة العبقرية التي تفتق عنها ذهن ساسة رومانيا خلال الأسابيع الماضية. تفتق ذهن الحكومة عن قانون يخفف العقوبات المقررة في حق لصوص المال العام ومستغلي النفوذ. كيف؟ عبر تحديد سقف مالي مرتفع للحديث عن جريمة فساد مالي. إذا نهبتَ أي مبلغ تحت هذا السقف، فالأمر لا يعد جريمة مالية، وفي أسوأ الأحوال، قد يدخل ضمن خانة سوء التدبير وتطال مرتكبه عقوبات بيروقراطية ومسطرية إدارية لا تصل حد التجريم، وبالتالي لا تفتح أبواب السجون.

قانون يعبد الطريق لسرقات مستقبلية، ويمحو آثار سرقات ماضية، ويطلب من الشعب تفهم غواية المال، وضعف الحال البشري، ولما لا التعاطف مع السياسي المسكين، المغلوب على أمره، كأنه “جان فالجان” في رواية “البؤساء”، مع فارق بسيط في بين شخصية “فيكتور هوغو” والسياسي الروماني المعاصر، الأول يدخل السجن بسبب رغيف خبز، والثاني يدخله في حال سرق ما يزيد عن 46 مليون سنتيم تقريبا! نعم، هذا هو السقف الذي يقترحه القانون الجديد للفصل بين ما يعد نهبا وفسادا، وما يعد قصة من قصص البؤساء..

مَنَ الكائن الوحيد في هذا العالم الذي يمكنه أن يُدبِّج مرسوما حكوميا يتسامح مع نهب نحو 46 مليون سنتيم بملامح هادئة وابتسامة دبلوماسية وأريحية مفرطة؟ مَنْ يمكنه أن يراهن على مرور موجة الغضب وتفرق المظاهرات إلى آخر رمق؟ مَنْ يملك كل هذه “الثقة بالنفس”؟ إنه خريج مدرسة النجاح الحقيقية: “السياسة”. ولولا المظاهرات الحاشدة وثبات المحتجين في الساحات لأيام وليال متوالية، بشكل يذكر المُتابع العربي بمشاهد الانتفاضات العربية في 2011، والمتابع الروماني بالمظاهرات التي انتهت بإعدام الديكتاتور “تشاو سيسكو” وزوجته رميا بالرصاص، لكان لصوص المال العام برومانيا، يحتفلون في فنادق ونوادي بوخارست الليلية، فيما قنافذ أخرى، في بداية المشوار، تمد أشواكها تحمسا وتيمنا بالقانون المبارك.

الذي يتابع فضائح الفساد السياسي المتلاحقة، أقلها خلال العقد الأخير فقط، سيلاحظ حجم المغالطة التي يصدقها العالم، عندما يراهن كل مرة على السياسة وقوانينها وجيش عرمرم من المواثيق والأوراق البيضاء والمسودّات والقرارات لإحداث التغيير، فقط ليكتشف أن كل تلك البنود والمواثيق على كل ما فيها من تشدد وصرامة تبقى حواجز قصيرة يسهل القفز فوقها.

ولازلنا نتذكر، أيضا، ما كشفت عنه “أوراق بنما” العام الماضي، من تورط رجال السياسة، في كبريات العواصم “الديمقراطية”، في تهريب الأموال إلى جنان “بنما” الضريبية عبر مكتب الاستشارة القانونية “موساك فونسيكا”، مستغلين نوافذ الإغاثة التي ثبتوها داخل القوانين بأيديهم للاستفادة منها بعد ذلك. ولم تهدأ بعد نكسات السياسة، حتى أهدت صناديق أعظم ديمقراطية في العالم “دونالد ترامب” للأعداء والأصدقاء سواء بسواء، هذا الرئيس الذي يعد لوحده أكبر مثال على قبح السياسة ونُضوب مَعِينها.

رغم ذلك، فلا أقصد القول هنا إن السياسة لا تصلح لأي شيء. الفكرة هي أننا بحاجة إلى إعادة تحديد المكانة والأهمية التي نوليها لها في سلم الوسائل التي يمر عبرها التغيير. تعطي السياسة الانطباع بأنها أكبر مداخل تغيير ونهضة المجتمعات، متسلحة بمجال اشتغال واسع وإمكانات خرافية وسلطات واسعة ومؤسسات وأنظمة مشتبهة وغير متشابهة. وكل يوم، تكذب وقائعها هذا الانطباع. وتثبت أنها في الحقيقة أصغر مداخل التغيير وأكثر الطرق التواء لتحريك أي شيء من مكانه.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي