مغربان وجغرافيا واحدة

03 مارس 2017 - 16:28

لما كنت طفلا ويافعا لم يكن التعليم الذي كنت أتلقاه استثنائيا، بل كانت به نواقص عدة. كان القسم في أذهان الكثيرين آنذاك مرادفا لنوع من « الترهيب ». كنا مكرهين على حفظ جداول الضرب، وآيات، بل سور بكاملها من القرآن واستظهارها بشكل آلي وبأسرع ما يمكن تفاديا لتلقي ضربات « التيو ».. وكنا مجبرين على حفظ « كان وأخواتها » و »إن وأخواتها »، كذلك، دون أن نعرف حقا أي أخوة تربط بينها.. وكان لزاما علينا معرفة النعت وتمييزه عن « الحال » و »البدل »، وإتقان « التمييز العددي » وتصريف الأفعال في الماضي والمضارع وفي صيغة الأمر، وكم كنت أعاني من صيغة الأمر. وكان علينا في الإعدادي حفظ مجموعة من المعادلات المبهمة، والتي كنا ننقلها في دفاترنا ونحفظها عن ظهر قلب دون استيعابها (a+b)2=a2+2ab+b2…. إلخ. وكان لزاما علينا إتقان التحرير بالفرنسية… وكان وكان… كل هذا في جو يغلب عليه القهر والإكراه، لذلك كنا نحس بفرح عارم ونحن نغادر المدرسة أو الإعدادية، وكنا نسعد كثيرا ونهلل لقدوم عطلة من العطل، تماما كما يهلل السجين عند حلول موعد الإفراج عنه.

كانت مدارسنا وإعدادياتنا وثانوياتنا تعاني من كل هذا وأكثر، ولكنها كانت فضاء للاختلاط الاجتماعي، فكنا نحن الصغار واليافعين الفقراء نتقاسم نفس الطاولات والأقسام مع من هم أكثر فقرا منا بكثير، ومع من هم أيسر حالا منا بكثير أيضا. وطيلة سنوات دراستي المتواضعة من الابتدائي إلى الثانوي، جلست في القسم ذاته، بل وفي الطاولة نفسها، مع أقران يعيشون في « الكريان »، فضلا عن آخرين يسكنون الفيلات، ولم يكن هذا الفرق في المستوى المادي يؤثر كثيرا على علاقاتنا وصداقتنا، بل كنا نزور بعضنا بعضا في أحيائنا المختلفة ونلعب معا كرة القدم.. فقط لم نكن نقاوم غيرتنا فنعمد إلى محاولة تمزيق أقمصة أترابنا الأغنياء أو رفس أحذيتهم الرياضية الغالية، حين يكونون في الفريق المنافس. ماعدا هذا كنا نتقاسم النكت والضحكات وكنا نشجع بعضنا بعضا للتغلب على خجلنا للحديث مع فتيات الإعدادية.

أما اليوم، فقد يبدو ما أقوله وكأنه مجرد خيال أو في أحسن الأحوال منتميا إلى عصور غابرة وإن كان يعود فقط، إلى سنوات الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات.

فالمدرسة العمومية التي من أدوارها الرئيسة خلق لحمة بين مختلف الطبقات في المجتمع، صارت اليوم عاملا أساسيا في عزل بعضها عن بعض. فقد كشفت دراسة تقويمية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وهمت عينة من أكثر من 34 ألف تلميذ وتلميذة، أن مقاعد المدرسة العمومية لم يعد يرتادها سوى أبناء الفقراء لأن القدرات المادية لأسرهم لا تسعفها لتسجيلهم في مكان آخر. فحسب نتائج الدراسة، التي أشرفت عليها الباحثة رحمة بورقية، مديرة الهيئة الوطنية للتقييم، 98 % من تلاميذ المدرسة العمومية حاليا ينحدرون من أسر محدودة الدخل بشكل أو بآخر. أما الأسر الميسورة، فقد ألغت المدرسة العمومية من حياتها وتفضل ممارسة حقها المشروع في البحث لأبنائها عن تعليم أكثر جودة.

يخيفني حقا هذا الأمر لأنه سيخلق بعد جيل فقط، مغربان يسيران بسرعات وقدرات متفاوتة.. مغربان يعيشان، ربما، على الجغرافيا نفسها، ولكن بينهما هوة سحيقة لا جسور عليها. مغرب تقلّب في مقاعد المدرسة العمومية وتلقى تعليما وتكوينا مترهلا لا يسعفه حقا في مواجهة الحياة؛ ومغرب آخر هناك تلقى تعليما يساير إلى حد ما المعايير المعمول بها دوليا ويستجيب لحاجات الحياة المتجددة.. مغرب سيزيد تعليمه وتكوينه الضعيف في عزلته وانكماشه على نفسه، ومغرب آخر يعيش على هذه التربة ولا يعيش عليها.. مغرب، ربما، يكون منفتحا على العالم، ولكنه منغلق على محيطه وينظر إليه بتوجس وارتياب.

باختصار.. إن مدرستنا العمومية في وضعها الحالي، بصدد خلق مغربين لا يعرف أحدهما الآخر.. مغربان قد يستعدي كل منهما الآخر.. وهذا أكثر ما أخشاه..

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

ركراكية مغربية منذ 7 سنوات

و لم لا تقول اننا فعلا بصدد معاينة هذا الواقع حاليا

التالي