مرض مزمن آخر

23 يونيو 2017 - 16:13

الذين رأوا النور وترعرعوا في درب السلطان مثلي، يعرفون جيدا تلك المدرسة الابتدائية المسماة قيد وجودها « كريط ». كانت لسنين تقف هناك أمام سوق « القريعة » الأسطوري ببنائها المهيب. وكانت تنضح حياة لعقود قبل أن تتحول إلى مأوى للعائلات المنكوبة في فيضانات البيضاء أواسط التسعينيات، الذين سيقضون في حجراتها ذات السقوف العالية ما تيسر من سنوات. ثم صارت أطلالا حزينة يصفر في أورقتها وممراتها الريح، ومطرحا للأزبال، قبل أن يستيقظ سكان الجوار قبل سنوات قليلة على أشغال هدمها وتحويلها إلى أثر بعد عين. هذا باختصار شديد مأساة مدرسة ابتدائية تم إعدامها تربويا، ثم ماديا. وهناك العديد والعديد من الحكايات المماثلة لبنايات تعليمية أخرى في جل المدن المغربية، لا تختلف الواحدة عن الأخرى سوى في تفاصيل بسيطة، بينما يشكو المغاربة، في البيضاء وغيرها، منذ سنوات عديدة من الاكتظاظ في المؤسسات التعليمية العمومية، حتى بات من الأماني المستحيلة العثور على قسم يضم أربعين تلميذا في القسم، رغم أن هذا الرقم يمثل ضعفي المعدل المتعارف عليه داخل دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (21 تلميذا في القسم)، أي الدول التي تعترف حقا بأهمية وحيوية التعليم، وتؤمن بأنه القلب الذي يضخ الدماء السليمة في كل شرايينها.
وكشف المجلس الأعلى للحسابات في المذكرة، التي وجهها هذا الأسبوع إلى وزارة التربية الوطنية، أرقاما مخيفة حقا تبين ما يعمق أمراض التعليم المغربي ويدفعه إلى حافة الشلل، هو سوء التدبير الخطير للقليل المتوفر. مثلا أظهرت المذكرة أن أكثر من ألف مؤسسة تعليمية تعاني من العطالة ولا يستبعد أن ينالها في نهاية المطاف ما حل بمدرسة « كريط ». فتتحول إلى تراب ولا يتبقى منها سوى شجرة مثل تلك النخلة اليتيمة الحزينة وسط ساحة هذه المؤسسة المأسوف عليها، أو بعض الذكريات البعيدة في صدور من ارتادوا مقاعدها ذات زمن بعيد أو قريب.
والقاعات التي تضمها تلك البنايات التعليمية المغلقة تعادل 1360 مؤسسة، بمعدل 12 حجرة في كل واحدة. وهذه الحجرات قادرة على استيعاب أكثر من 650 ألف تلميذ بمعدل 40 فردا في القسم!
ليس هذا فقط، فعلى عكس ما تقول الوزارة وشكواها الدائمة من الخصاص في الأساتذة (قضاة المجلس قالوا إن هذا الخصاص يقدر بـ16700 مدرس)، كشفت هذه الهيئة الرقابية أن هناك فائضا (نعم فائض!) يصل إلى 14 ألف مدرس بسبب سوء الانتشار.
قد يقول قائل إن هذه المدرسة العمومية، ورغم كل هذه الأعطاب مازالت صامدة والدليل أن أعلى المعدلات في الباكالوريا يحصل عليها دوما تلاميذ أو تلميذات التعليم العمومي. ولكن هذا مجرد وهم خادع، مثل ذلك السراب الذي يجعلنا نجري وراءه إلى أن ننهار تماما، بينما يواصل هو بريقه الهازئ والمستفز الذي يخفي عنا (أو يحاول) سوء التدبير، هذا المرض المزمن الذي ينخر التعليم المغربي وقطاعات أخرى كثيرة.
والحال أن سوء التدبير هذا، ليس قدرا إلهيا ينزل بدون سابق إنذار على المجتمع، بل يكون بالقطع ناتجا إما عن الجهل أو اللامبالاة أو غياب الإرادة السياسية. وهذه العناصر كلها – سواء أكانت منفردة أو مجتمعة- من شأنها أن تؤدي إلى انفجار المجتمع وتدميره بالكامل، كما حدث لمدرسة « كريط » المسكينة.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي