خطاب العرش ومأزق الانتظار

29 أغسطس 2017 - 14:52

بعدما رفع الخطاب الملكي، وبشكل رسمي، الحجاب عن واقع سياسي مزرٍ، كنا نعتقد أن المغرب كله سيتحول إلى ورشة عمل، كل من موقعه يتحمل مسؤوليته لخلق قرارات تسعى إلى تنزيل أهداف الخطاب الملكي، بإصلاح ما تمت الإشارة إليه من ظواهر سلبية، وتمنح تلك الحقيقة الرئاسية لمفهوم دور رئيس الدولة.

وكنا نعتقد كذلك أن الإعلام سيواكب بدوره هذه الحركية، وسيشرك الرأي العام في هذه القرارات، كما اعتقدنا أن جهاز الحكومة والإدارة بدورهما سينفذان توجيهات جلالة الملك بصفته الرئاسية، لكونه المسؤول الأول وفق الفصل 42 من الدستور.

غير أن كل ذلك لم يحدث، فالجميع خفض صــوته، وركن إلى زاوية، كانت إداريــة أم حزبية، أو موقع سياسي، فالبعض اعتقد أنه بهذه الطريقة سينسى، والبعض الآخر يتصور أن القرارات ستنزل من السماء، فدخل ردهة الانتظار ربما لأن له شعورا بالمسؤولية عن النواقص التي نص عليها الخطاب.

والأدهى أن البعض الآخر سار في الاتجاه المعاكس تحت شعار «مصلحتي ومن بعدي الطوفان»، أما آخرون فاعتقدوا أن الدولة كلها تختزل في رئيسها، ومن ثم يجب الانتظار إلى حين صدور قراراته، حتى في جزئيات لا تستقيم ومهامه وأدواره الدستورية، وكأن الأزمات اليومية بجزئياتها وجهويتها هي من اختصاص رئيس الدولة، أي جلالة الملك فقط، وأن الآخرين يكون دورهم هو الانتظار، فركب البعض هذا المبرر، ومنهم من هرب إلى الأمام بالإشادة بالخطاب وكأن الأمر لا يعنيه.

الواقع أن البعض الآخر لا يهمه سوى أن يتحسس موقعه إذا لم أقل رأسه، وكأن الوجود والعالم لا يكمنان إلا في الحفاظ على موقعه، وفي المقابل آخرون يملؤون الدنيا ضجيجا كعاصفة في فنجان بخلق صراعات دونكيشوطية إعلامية من أجل الإيحاء بأنهم يشتغلون، وفي حقيقة الأمر هم لا يقومون إلا بذر الرماد في العيون.

وهكذا، ومنذ خطاب العرش، دخل المغرب كله في قاعة الانتظار. الكل ينتظر ما قد يأتي أو لا يأتي، حتى جاء خطاب ثورة الملك والشعب، وتحدث عن موضوع آخر، فلرئيس الدولة مهام أخرى واهتمامات متعددة ومتشعبة، كما أن له أجندته الخاصة لطبيعة دوره الدستوري الشاسع ومهامه الدولية.

إلا أنه حينما يتحول الإداري إلى مسؤول سياسي، فإن الطامة الكبرى تكمن في جهله السياسي المركب من خلال تحوله إلى أسير للتعليمات والحلول التقنية الترقيعية، أما حين يتحول السياسي إلى أسير لامتيازات كرسيه الوزاري والحسابات الضيقة للبقاء أو الرحيل، فإنه على استعداد للتضحية بتاريخه وبرصيد حزبه خدمة لموقعه.

إن خطاب العرش قد أربك الكثيرين، وخطاب ثورة الملك والشعب أفقدهم البوصلة والقدرة على التفكير، فأمسى الجميع جامدا أمام سؤال كبير: ماذا يجب أن يتم فعله؟ ومن يجب أن يقرر بشأن ذلك؟ وكأن على رئيس الدولة أن يفكر مكانهم، وأن يجد لهم حلولا للمشاكل اليومية، في حين أن رئيس الدولة مسؤول عن دولة بكاملها وبتشعباتها، وضامن دوامها واستمرارها، ورمز وحدتها، واختصاصات كبرى أخرى يمتلكها دوليا، وليست وظيفته، كما ينتظر البعض، أن يصبح مجرد وظيفة إدارية جزئية في وزارة ما.

إنه ليس من وظيفة الملك إيجاد حلول للمواطن، بل هذا من صميم شغل الإدارة والسياسة، أي شغل الحكومة تحت مراقبة البرلمان، وإن الملك حينما يقوم بذلك في بعض الأحيان فقط بدافع إنساني، وهذا استثناء لا يجوز القياس عليه حتى ننتظر منه أجوبة مفصلة في خطاب ثورة الملك والشعب.

إن الفاعل السياسي والإداري حينما يتحرك ويخطئ، فتلك له وليست عليه، أما إذا التزم الجمود لضمان موقعه، فتلك انتهازية وعجز عن القيام بمهامه، وخيانة لوظيفته والتزامه الوطني، فكل كلمة نص عليها خطاب العرش اتجهت بشكل واضح صوب مشكلة معينة، إما سياسية أو إدارية، فكيف يعقل ألا يتحرك أحد وألا يجتهد أحد. كل جالس مكانه في صمت مطبق، يلتمس من العلي القدير أن ينساه أو يتناساه الآخرون، معتقدا أن أي تحرك له لعلاج القضايا المثارة في الخطاب قد يجعله في موقع الاتهام، أو قد يوحي بأنه هو المقصود بالخطاب.

الديمقراطية لم تكن في يوم من الأيام كلاما وتنابزا بالجمل والألفاظ، أو مواقف مبنية عن الكراهية والحقد، بل هي ذلك الشعور بالمسؤولية، وتلك الجرأة في اتخاذ القرار لفائدة مصلحة الدولة، حتى من خلال رؤية ذاتية، والقدرة على الحوار حتى مع الرأي المختلف، أما الانتظار فإنه يقتل الوقت ويقتل السياسة ويُفقد الأمل.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي